أبو نواس الوجه الآخر بقلم.. مدحت رحال
أنت أقرأ من في البصرة ،
وأعطاه خاتمه الذهبي جائزة .
..
كان لنا لقاء مع شاعر الغزل والخمريات / أبو نواس في مقال سابق .
رأينا فيه الوجه المعلن والذي أفاضت فيه كتب الأدب والتاريخ في العصر العباسي .
الشاعر الماجن العابث الخليع .
واليوم لنا لقاء مع الوجه الآخر لأبي نواس .
الوجه الذي الذي حاولت وسائل الإعلام _ إن جازت التسمية _ في ذلك العصر تشويهه أو إخفاءه .
..
يعقوب الحضرمي أحد القراء العشرة في ذلك الوقت ،
كان يعقد مسابقة لما يمكن أن نسميه أمير القراء في البصرة .
ستعجبون إن قلت لكم إن أبا نواس هو الذي فاز في هذه المسابقة ،
وإن يعقوب أعطاه خاتمه الذهبي
جائزة المسابقة ،
وقال له : أنت أقرأ من في البصرة .
..
أبو نواس / الحسن بن هانىء
دمشقي الأصل ،
كان جميل الصورة ، حلو المعشر ، فيه ظرف ،
له ذؤابة تنوس على كتفيه فسموه / أبا نواس
كان بهجة المجالس قريبا من القلب .
..
يرى بعض من تعرض لسيرة أبي نواس أنه قد ظُلِم وأنه تعرض للتشويه في سيرته ،
أو أنه على الأقل لم يكن على ما وصفوه من مجون وخلاعة .
..
وقبل أن نعرض لوجهة نظر هؤلاء دعونا نقرر أن :
التاريخ يكتبه الأقوياء
ويزوره المغرضون من المتملقين والحساد .
..
يرى أصحاب هذا الراي أن سيرة أبي نواس قد تأثرت بعدة عوامل أعطت فرصة عظيمة لمن أراد النيل منه :
_ لعبة السياسة :
كان أبو نواس ضحية للتاريخ ( وقلنا كيف يُكتَب التاريخ )
والأنظمة السياسية .
فقد كان من رجال البلاط الرشيدي والبرمكي قبل نكبة البرامكة ،
وكان على صلة وثيقة بحيى البرمكي ،
ومحسوبا عليهم .
وإثر نكبة البرامكة فر إلى مصر وبقي فيها إلى أن مات الرشيد
..
عاد بعد موت الرشيد إلى بغداد ،
وكان من بطانة الأمين .
وعندما دب الخلاف بين الأمين والمأمون كان أبو نواس ضحية هذا الخلاف مرة أخرى ،
فقد كان محسوبا على الامين .
..
_ اتهم بالتشيع لآل ةلبيت ،
فقد كتب قصائد في مدح آل البيت .
..
_ شعره في الغزل كان جريئا إلى حد كبير ،
بل وصل إلى التغزل بالغلمان فضلا عن الجواري .
..
_ خمرياته لها ذوق خاص ،
وقد تفنن وأتى فيها بما لم يأته غيره .
..
كل ما سبق أعطى فرصة كبيرة لشانئيه وحاسديه ليخرجوا على التاريخ بأبي نواس الماجن المستهتر الخليع .
..
ولكن جاء من حاول أن ينصف أبا نواس ، ويزيل الغبار عن الوجه الآخر له .
ذكرنا ما قاله آنفا يعقوب الحضرمي فيه .
_ قال عنه الجاحظ في كتابه / الحيوان :
العالم الراوية .
_ قال عنه ابن المعتز في مؤلفه طبقات الشعراء :
كان عالما فقيها عارفا بالأحكام والفتيا ،
بصيرا بالإختلاف بين الفقهاء ،
صاحب معرفة بطرق الحديث ،
كان أحفظ الشعراء للشعر الجاهلي والمخضرم ،
_ قال الشافعي فيه : لولا مجونه في الشعر لأخذت عنه .
_ قال عنه ابن منظور : كان متكلما راوية.
_ أصدقاؤه : سيبويه ، الكسائي ، ابن جني ، حمزة الاصفهاني
خلف الأحمر ، وهو من أطلق عليه أبو نواس .
..
يدفع عنه أصحاب هذا الراي :
كان أبو نواس وبشار بن برد من أساتذة التجديد في الشعر العربي .
كانت مرحلة فنية فرضتها الحضارة الجديدة في العصر العباسي ،
كانت مدرسة فنية جديدة ، وبناء فني جديد ،
مظاهرها الخمر والجواري والقيان والغلمان ،
كان ذلك اسلوبا ونهجا جديدا في القصيدة .
وليس كل من ذكر الخمر سكيرا ،
وليس كل من تغزل بالنساء خليعا .
كان ذلك أسلوبا ولم يكن حياة .
..
وهذا عمر الخيام وأحمد شوقي خير مثال :
عمر الخيام صاحب الرباعيات ، كان عالما في الرياضيات والفلك .
أحمد شوقي قال:
رمضان ولى هاتها يا ساقي
مشتاقة تسعى إلى مشتاق
كان كل الشعراء يسلكون هذا النهج الجديد وأبرزهم أبو نواس ،
لأنه كان الأعلى مقاما والأقدر على الإتيان بالمعجب والمطرب .
..
وربما كان لنشأته أثر في ذلك :
فهو الدمشقي رقيق الحاشية ظريف القول لطيف المحضر .
يمتاز بما يمتاز به أهل الشام من رقة الفؤاد ورهافة الحس وحلو الكلام وخاصة النساء .
كثيرا ما سمعت المراة الشامية تدعو على ولدها إذا غضبت عليه فتقول :
روح يبعتلك صحة ، يبعتلك عافية
..
نشأ يتيما :
وضعته أمه صغيرا في الكُتاب فحفظ القرآن ،
ووضعته في دكان عطار ، فأضفى عليه ذلك رقة وعذوبة في القول ، استقام عليها لسانه لكثرة تعامله مع النساء .
..
لم يكن الغزل والخمر ميدان أبي نواس فقط .
فقد كتب في المديح وفي الهجاء وفي الزهد ،
ويعتبر شاعر الطرد ( الصيد ) .
فقد أجاد في وصف صيد الطرائد وكلاب الصيد والعقاب وغير ذلك مما كان يستخدمه الصيادون في مطاردة الصيد .
فقد كانت رياضة الطرد هواية الخلفاء والامراء ،
ولهم فيها أخبار كثيرة وطريفة .
..
لم يكن أبو نواس ملاكا ،
ولكنه لم يكن كذلك شيطانا .
كان شاعرا رقيق الحاشية ، ذا شاعرية متدفقة ،
ضليعا باللغة ، حاذقا في استخراج كنوزها ،
ينساب الحرف مطواعا على لسانه .
من كانت هذه صفاته فلا شك أن الغزل هو ميدانه الرحب .
كان فارس الميدان بلا منازع .
كان شوط الآخرين وراء خطوِه وإن يمشي على مهل .
ولما لم يستطيعوا أن يلحقوا به قتلوه .
..
قيل إنه مات مسموما وهو في منتصف الخمسين من عمره .
ودفن في بغداد في مقبرة تعرف اليوم بمقبرة الشيخ معروف .
..
وهكذا انتهت حياة أبي نواس ولكن لم ينته ذكره ،
وأيا ما كان أبو نواس ،
فقد شغل الناس في عصره وفي كل العصور .
..
تعقيب :
شغلت الناس في بغداد حيا
وفي كل الدُنا بعد الممات
مدحت رحال ،،
التعليقات مغلقة.