” أربع ساعات” قصة قصيرة بقلم / عصام الدين محمد أحمد
أهرول من مكان لآخر.
كالمعتوه أتنقّل في الحواري المليئة بالانهيارات.
الأرض يغطيها الطوب وبقايا الأعمدة الخراسانية؛ تغيرت طبيعتها فأمست حُبلى بكثبان الأتربة، تلال الأسقف المتساقطة، هضاب الأثاث المنثور، والحفر عميقة الأغوار.
لا يمكنني الرقود والانتظار حتى لا أشعر بوطأة الوقت!
ربما أثناء تجوالي أعثر على بعض الأنفس النافقة أسفل أكوام الأتربة!
مضت ساعة من الوقت وأنا على هذا الحال.
كثيرون يلتفون حول الحطام؛ كما أفعل الآن، لكن الأسباب تتباين:
فأنا لا أبحث عن أقارب شهداء، لأنني ببساطة شيعت جميع أقاربي بالأمس؛ زوجتي وأمي وجميع أفراد عائلتي، خلّفوني وحيدا.
لم تلحق بي الشهادة؛ من المؤكد ضعف عقيدتي حتى لا يصطفيني الله!
حينما قُصف البيت ترامت إليّ أصواتهم، نبشت الأسمنت، خار عزمي، لم أزحزح أي شيء.
بعد مرور يومين كاملين حل عليّ الدور للاستفادة من معدات الرفع الثقيلة، قبل الشروع في العمل استهدفت طائرات الشيطان الموقع ذاته بأطنان الحمم، كأنهم يترصدون الأشلاء!
تلاشت الاستغاثات التي أرقتني طوال يومين.
سافروا وتركوني وحيدا وبدون مأوى.
لذلك تجدني هائما على وجهي، أترجل الأرض كل الأرض، أجوس البقاع وكأنني أختبر وجودها!
ربما أقنع نفسي بوجودي المادي!
ها هي الساعة الثانية عبرت.
لماذا لا تعود من حيثما أتيت؟ فالرجوع قد يستهلك ساعتين وربما أكثر!
فلماذا النكوص ولا أحد ينتظرني؟!
فلِمَ العجلة أذن؟
أتعتقد في صدق الهدنة التي يتشدقون بها؟
أذاعوا أن جنوب غزة آمن؛ تحرك البعض فحصدتهم مناجل النار.
أأدركت الآن أنهم يمدون لك اليسار ليطعنوك باليمين؟!
تنهمر القذائف على شتى الأرجاء؛ ألم أقل لك قبلا أنهم لا عهد لهم ولا ذمّة!!
لم أعر القصف أدنى اهتمام؛ لكل أجل كتاب!!
ما نفع الهروب والقنابل كالهواء؟!
أعدو بأقصى قوة، لعلي أشارك الشباب لإنقاذ الأرواح قبل أن تستقر أسفل الأنقاض، أرفع بكل عنفوان الكتلة الخراسانية المنهطلة، الكثيرون يزيحون معي، كاد الإجهاد يقضي على بقيتي، لا بد من إتمام المحاولة!
يتحرك ذراع طفل، ننجح في أبعاد الكتل الضخمة، علينا الآن الحفر في محيط الذراع المرتفعة، يستغرقنا العمل، تتململ الذراع رويدا رويدا.
أخيرا نسَلَت طفلة لم تتجاوز العاشرة من أسفل كومة الركام.
أتنهد مرتاحا، كأنني فعلت شيئا غير مسبوق!
أتصدق أن البنت سليمة إلا من بعض كدمات.
نهلل، نكبر، ننسى الوجع والألم.
يفتش الجمهور عن حالات أخرى؛ فما أكثر الدور المحترقة!
أتمدد موضعي.
هضمني الجوع، أمتص بقيتي المضعضعة.
تذكرت أنني لم أتناول الطعام منذ أيام.
عليّ البحث عن قطعة خبز!
أظن أنني أطلب مستحيلا!
من اليسير أن تعثر على جثث لمئة طفل وامرأة ولا تجد كسرة خبز واحدة!
الخبز يُصنع من الدقيق، الدقيق خارج الحدود، الحدود مسنكر بابها بيد الصديق والعدو؛ ألا تجيد حل الأحاجي؟
أنهض متكئا على الركام، وقبل الاستواء ألمح كيسا، أنثني لأفحصه، مُخضّب بالدم، أفتحه بتؤدة؛ قطعة حلوى، أمسح آثار الدم بقميصي المتسخ، أزدرد قضمات، أحتفظ بالباقي في جيب سروالي.
انتهت الساعة الرابعة وفي صحبتها الهدنة، أربع ساعات للتبضّع ، لشراء العلف ، كأنني أضحية عيد الأضحى!
أيضا الأسواق فارغة تماما ، كأنني كائن فضائي لا يأكل ولا يشرب!!
حينما تلج تخوم العشرين ساعة الباقية جهز نفسك للموت؛ مت بالفسفور ، بالبارود، بالحسرة، بالحزن، ليس لك اختيار!!
أتخطى المتاريس، أتهادى متأملا وجوه المارة؛ جامدة يعلوها الشحوب، نظراتهم زائغة، دموعهم يابسة.
انطفأت مظاهر الحياة.
طائرات أحفاد السامري تعبث في السماء.
تصب جحيم غضبها على الحيوانات المتوحشة القاطنة هذه الأرض.
اختر الحيوان الذي يماثلك!
كن أسدا أو نمرا؛ فالأمر لن يختلف كثيرا.
ألجم غيظك، فالغد لم يأت بعد!
الشمس- أيضا- لم تغادر السماء.
تمت بحمد الله
عصام الدين محمد أحمد
التعليقات مغلقة.