أزمة كرامة….قصة قصيرة..
فادية حسون
كان محمدٌ يقودُ السيارة بصعوبة وحذرٍ في الطريق الموحل بعد أن عبثت بسطحه مئات السيارات التي تنقلُ الفارّين من الموت إلى أماكن أكثر أمنا وأمانا.. فعاثت عجلاتُها في الطريق فسادا… أسندَ والده الحاج زكريا رأسه إلى الكرسي بوجهٍ اعتلاه الإرهاق وعينين مغمضتين على فصولٍ مأساوية تأبى أن تبرحَ مخيلته المكتظة بصور الحقائب والامتعة النساء والأطفال والشيوخ…
لم يشأ محمدٌ إيقاظ والده أملا منه أن يرتاحَ قليلا لهولِ ماشهده من كوارث هذا اليوم… كان الوقتُ يقترب من المساء.. والشمس منشغلةً بلملمةِ بقايا نورها من على سطوح الموجودات .. فتخطف بذلك تدريجيا إمكانية الرؤية الواضحة بمساعدة بعض الضباب…
ووتيرة البرد تتصاعد باضطراد ملحوظ ..
وفجأة لاحت لمحمدِ ثلةٌ من البشر على هيئة أشباح يفترشون جانبًا من الطريق يتسيده الوحل والصقيع .. أشعلَ النورَ الاماميّ لسيارته كي يتبيّنَ أمامه ، وضغط بخفةٍ على مزمار السيارة.. أفاق الحاج زكريا مذعورا .. فرك عينيه وأدنى رأسه من الزجاج الامامي ماسحا البخار المتكاثف بيمينه .. قال لمحمد: توقّف يابني .. لابد أنهم يحتاجون مساعدة ..
بدا الذعرُ مرسومًا على ملامح الأب والام وأولادهم الثمانية وهم يحجبون عيونهم بأكفهم ليدرؤوا هجمة النور المباغت .. ترجّل الحاج زكريا وإبنه محمد بعد أن حقنا وجهيهما ببعض رسالات السلام والاطمئنان كي يكسرا جدار الخوف الذي انتصب فوق مساحات تلك المقل المتعَبة .. أمسك الرجلُ ذو العقد الخامس من عمره بطفلته ذات العامين وضمها إلى صدره ليهدّأ من حدة ذعرها وارتعادها…
كانت الاشياء التي أحضروها معهم تسرد قصة المأساة التي تعرضوا لها بكل تفاصيلها… أما وجوههم البائسة فقد كانت تبدو مثل خربشاتِ ريشةٍ جريئةٍ على الجدران العتيقة بيد رسام حاذق صوّر البؤس بأدق تفاصيله بريشته العشوائية… لاحظ الحاج زكريا مقدار الحشمة والعفاف التي كانت تبدو على أفراد تلك العائلة.. وشاهد أيضا تلك الأنّات والحسرات المتسربلة بالخصاصة والعوز…
كانت شفاهُ الصغار أقربَ إلى الزرقة منها إلى الحمرة ترتعد بشدة صعودا ونزولا ، وأنوفهم تسيل بردا وبكاء وقهرا.. وخدودهم مشبعةً بطبقات من الدموع التي انهمرت في فترات متلاحقة..
وقبل أن ينبس الحاج زكريا بكلمة ، بادره الرجلُ بكل وجلٍ وارتباك بالتبرير عن سببِ جلوسه في هذا المكان حيث لاطيرٌ يطير ولا وحشٌ يسير ..
— والله ياأخي أنزلني السائق أنا وعائلتي وأغراضي هنا لأن مالدينا من نقود لايكفي لإيصالنا إلى مكان آمن ..
قاطعه الحاج زكريا بلطفه ودماثته: أوليس لديكم مأوى؟
قال : لا والله .. كنا نمتلك سلةً إغاثية لم أشأ أن أفتحها رغم توسلات زوجتي لتسد بمحتوياتها رمق أطفالي… وحين هممنا بالنزوح من بيتنا بعتُها بثلاثين ألف ليرة.. لكن السائق أصرّ على إستيفاء خمسة وعشرين ألفا قبل أن يدعنا هنا وينصرف..
فكّر الحاج زكريا بحجم الجشع الذي اعتلى قلوبَ الناس … وفكر في قدرة حبّ النقود على اقتلاع جذور الإنسانية بكل همجية.. وكيف أن مخالب الحرب كلها انغرست في أجساد هؤلاء الضعفاء كمخالب صقر جائع صادف أرنبا ضعيفا… نقّلَ بصره في وجوه العائلة فلم يرَ سوى نظراتِ الرجاءِ تقطرُ من أعينهم جميعا.. تحاصرُ قلبَه الكبير .. ترجوه ألا يدعهم في العراء يصارعون ضراوة البرد والصقيع… وتحثّه على انتشالهم من براثن الخذلان والحرمان …
طلب الحاج زكريا من الرجل وأسرته أن يذهبوا برفقته إلى عقار يمتلكه وفيه من الخدمات والمستلزمات مايجعلهم يستغنون عن أغراضهم التي بدت باليةً رثّةً في نظره..
قطّبت زوجةُ الرجل حاحبيها امتعاضا وازدادت تشبثا بالأغراض كمن يقبض على كنزٍ ثمينٍ وقالت له: لا لن أتخلّى عن أي شيء.. أنت لاتعرف قيمة هذه الأشياء التي رافقتنا في كل تنقلاتنا .. وبعينين دامعتين مررت راحتيها على أغراضها وهي تتمتم بغصة وقهر : كل قطعة من هذه الأشياء تحمل ذكرى عزيزة على قلبي.. إنني أشم رائحة جدران منزلي الذي أصبح الآن ركاما .. ورائحة الأرض وشجر التفاح والزيتون.. ورائحة ضجيج أولادي وهم يمرحون في ساحة الدار… أشم فيها مجالس جاراتي وهن يشاركنني قهوتي الصباحية.. وأشم عبق خبز جارتنا أم محمود وهي تقدم لي الخبز الطازج أثناء عودتها من التنور بوجهها المحمر من وهج النار.. إنها ذكرياتي العزيزة وإن كانت تبدو في نظرك أسمالا بالية ياسيدي .. فارجوك لاتحرمني متعة اصطحابها معي بعدما فقدنا كل مُتعِ الحياة ..
أومأَ الحاج زكريا برأسه العابق بالانسانية و الذي تعتليه قبعةٌ صوفية بنيةُ اللونِ وقال لها: لاعليك أختاه لك ماتشائين..
وطلب الحاج من ولده محمد أن يتصل بأحد أصدقائه لاستقدام سيارةٍ تتسع لهم ولأولادهم وأمتعتهم ..
ومشت السيارتان في الظلام بعد أن اقترب وقتُ العِشاء … وشهر شباط كان يضع توقيعه على كل شيء.. بردٌ.. وظلام.. وضباب… وأنفاس أناس يتوقون إلى جوار مدفأة متوهجة وكأس شاي يبث الدفء في العظام المتجمدة…
كانت الشاحنةُ التي تنقلهم تتمايل في الطريق المحفّر.. وتتمايل معها الرؤوس البائسة المغطاة بأغطية قضى منها الوحل والشقاء وطرا.. والتي بدت كأشباح نسوةٍ ينتمين إلى عصر الجاهلية يندبنَ حبيبًا قد رحل.. لم يكن ظاهرا من تلك الوجوه سوى العيون ..عيون مرهقة تتسيدها الدموع التي تجعلها تبرقُ كأعين القطط الشاردة كلما انعكس عليها وميض الإنارة الأمامية المنبعث عن سيارة الحاج زكريا وولده محمد…
فادية حسون.
التعليقات مغلقة.