أسرار قصة قصيرة بقلم/
خالد العجماوي
لا تكاد تطيق صبرا هذه المرة. قلبها واجف وهو يقرع صدرها في عنف. هل تحكي له ما قالته “أسرار” عن نفسها، وعنه، وعنها؟
لن تصبر حتى ينقشع الليل كي يبزغ النهار. أنفاسها مضطربة وحائرة، وهي تتذكر إشارات تلك الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعا، وهي تداعب الهواء بأناملها الدقيقة، وفمها مبتسم في هدوء، وعيناها النجلاوان شاخصتان في وثوق إلى روحها المضطربة التي تطل من عينيها.
ما الذي تحكيه يا “أسرار”؟ هذه المرة جنون..أنا؟ نهشتك؟ مزقت جسدك، ولكت كبدك، وابتلعت القلب! هل كنت قاسية إلى هذا الحد؟ كان فمي مدببا كخنجر، معقوفا وحادا، وعلى جسدي ريش طويل، وعيناي واسعتان عميقتان، ويداي مخالب حادة وقاتلة؟
هكذا أخبرتها أسرار هذه المرة. تلك الفتاة ذات الشعر الأحمر المجدول وراء عنقها الطويل، نزيلة دار الأيتام، الخرساء، والتي لا تتواصل إلا عبر لغة الإشارة التي تجعل من الأنامل ألسنة تنطق كلماتها في الهواء. وأي كلمات تلك! تعرف أن أسرار تمتاز بخيال عريض، وأنه ينمو داخلها كطفل وجد في عزلتها المفروضة عليها دارا سهلة ومنزلا مريحا لعربدته وتحليقاته العجيبة، ولكن لماذا هذا الخيال المريض؟ لماذا تراها روح حدأة كانت تحوم في السماء، وهي تحدق في فأرة مسكينة أمسكتها يد آدمية فمنعتها من الفرار، حتى سقطت الحدأة عليها كسهم جموح، فاختطفت تلك الفأرة المسكينة من تلك اليد الآدمية العجيبة، والتي تركت الفأرة كي تنالها الحدأة بمنقارها الفتاك، ثم هبطت بها على الأرض وقد طوقتها مخالبها، ثم افترستها هناك بلا رحمة!
تقول “أسرار” إنها الفأرة قبل أن تكون نزيلة الدار، وإنها الحدأة قبل أن تكون الزائرة الرحيمة العارفة بلغة الأنامل، وإن اليد الآدمية الآثمة فكانت لزوجها الكبير!
كيف عرفت يا “أسرار”؟
يكبرها زوجها بثلاثين عاما، وقد تجاوز السبعين، غير أن روحه لا تزال تتمتع بحس الفكاهة، كما لا تزال تجد متعتها في تربية الحمائم، والصقور، وربما الحيات! الرجل الكبير والثري، صاحب القصر المنيف، والمال الوافر، اصطادها من بين عشرات الفتيات، فجعلها ملكة هذا القصر الرابض في الحي الراقي البعيد..فسكنت حجراته، كما سكنت قلبه، وأسعدت أيامه ولياليه..هكذا ظل يخبرها، ويردد على مسامعها، فهل تخبره الآن، وقد جاوز الليل نصفه، بما قالته أسرار أم تراها تنتظر للصباح؟
سيتهمها بالجنون كعادته..وسيخبرها بأنها قد أصابها لوثة، وسيمنعها من زيارة الدار، ورؤية “أسرار”..وما ذنبها أن ليس لها فتاة تربيها من صلبها وصلبه؟ هل يعاقبها لأنها لم تأت له بطفل؟ وأنّى لها ولم…!
لا داع..
عامة هذه ليست المرة الأولى التي يتهكم فيها؛ فحين أخبرته باللقاء الأول مع تلك الفتاة الخرساء ذات الشعر الأحمر نزيلة الدار، الجميلة والصغيرة، والتي تملك من الحكايات العجيبة الكثير مما تحكيه لها عبر إشارات أناملها التي تطلقها في الهواء، وعبر كف يدها الصغيرة، وابتسامتها البريئة، لم يزد إلا أن نظر إليها في تشكك غريب، وبعينين زائغتين، وهو يقول إنه يعرف كل فتيات الدار، وأنه ليس ثمة واحدة منهن في الأصل اسمها أسرار! فلما وصفت له وجهها الأبيض، وشعرها الأحمر المجدول، وجسدها الضئيل، تأفف منها وزفر في حنق وهو يقسم لها أنه لا فتاة بمواصفاتها تلك تنزل في دار الأيتام، ثم يسألها زاجرا إن كانت قد نسيت أنه هو مالك الدار من الأساس.
قررت ألا تحكي له، كما قررت ألا تجادل في المرات القادمة. لكنها غدا بالتأكيد ستزور “أسرار” كي تسألها عن سر تلك الحكايات العجيبة. ربما قرأت المسكينة عن تناسخ الروح، حين تنتقل من جسد ما، ثم تتحرر منه حين يموت لتذهب إلى جسد غيره لتعيش عمرا آخر في ثوب جديد. ربما وجدت في هذا تسلية لها فاعتنقت تلك المعتقدات الغرائبية كي تهرب من واقعها المحزن إلى عوالم أخرى. ولكن لماذا تقول إنها فأرة؟ ولماذا تراها حدأة أكلتها، قبل أن تتحول هي إلى نزيلة الدار، وتتحول هي إلى زوجة مالك الدار وصاحبها؟
لحظة..ترى كيف ماتت هي؟! ترى كيف ماتت الحدأة يا “أسرار”؟
لم تقو على الصبر، حتى إذا ما شقشق الفجر، انطلقت نحو الدار كي تزورها كعادة كل يوم. وكأنها كانت تنتظر زيارتها، كما تنتظر سؤالها. أشارت بأناملها لتقول إن الحدأة قد بلاها عمرها الطويل، فسقطت بعد أن أعياها الطيران، فجاءت إليها تلك اليد الآدمية العجيبة، تحمل ثعبانا هائلا وجائعا، فتركته يزحف نحوها في بطء حذر، ثم سرعان ما التف حول جسدها المنهك، والتهمها في دفعات متتالية.. لا تذكر كم من الوقت مر..كأن الزمن قد تلاشى ولم يعد في الوجود غير عيني أسرار، وشعرها الأحمر المجدول، وأناملها المنطلقة في الفضاء. قبل أن تمضي أخبرتها الفتاة أنها سترى حين عودتها كلبة مسكينة وقد ولدت جروا صغيرا أمام قصرها المنيف. نصحتها بأن تتبناه،؛ فهو روح جديدة، سكنت في الجرو الصغير..أخبرتها أنه أليف، كما أنه يعرف دواخل القصر تماما كما تعرفه!
رجعت إلى قصرها والمطارق تضرب رأسها بلا رحمة..قررت أن تخبر زوجها أخيرا بما تحكيه “أسرار”..وجدته مستلقيا في فراشه كالنائم..ندهت عليه فلم يرد، وحركته فلم يحرك ساكنا ولم يدق له قلب. اقتربت من أنفاسه تحاول أن تنصت لها، فلم يطرق أذنيها سوى خربشة على الباب..ذهبت مذهولة وهي تفتحه فوجدت كلبة مسكينة تحمل جروا صغيرا في فمها ولدته لتوه، دخلت على قوائمها الأربعة مهرولة نحو غرفة الرجل كأنها عارفة بدواخل القصر، ثم تركت جروها بجانب جسد زوجها الرابض بلا أنفاس، وهي تنظر إلى زوجته الأرملة لاهثة.
صرخت في فزع هائل..بينما نظر إليها الجرو خائفا، وقد استكان فوق الجسد الميت.
التعليقات مغلقة.