أضغاث أحلام
قصة قصيرة
علي جبل.
يصف نفسه بالحداثي التنويري، ويؤمن بالمنهج العلمي التجريبي. وفي ليلة من الليالي الشتوية القمراء، والسماء صافية، وفي شرفة منزلي الكائن بأطراف القرية، حيث الهدوء يساعد على الفكر والتأمل. جلسنا معا نتجاذب أطراف الحديث. بَيَّنَ لِي الكثير من أفكاره ورُآه. علِمتُ حينها أنه قد تغير كثيرا عن سابق عهده. إنه عائد بعد غياب بفِكر آخر، أكثر جرأة، وأكثر حرية، فلا قيود عنده ولاكوابح. وعندما جَنَّ الليلُ، وتصدر القمرُ كبدَ السماء كقِنديلٍ في صحراء مُترامية. أخذ يصف القمر وجماله وعلاقته بالعشاق، فقلت: عادة ما أُراقبه بداية من الولادة، وعندما يكون هلالا، إلى ان يصل في منتصف الشهر بدرا جميلا. فسبحان من خلقه بهذا الجمال والإتقان. قال: رُؤْيتك له دليل على وجوده، أقررتُ له بذلك. فاسترسل في أفكاره المتوارِدة كَسيلِ عرِم قائلا: عليك ألا تصدق إلا ما تراه عيناك، وتلمسه يداك. ودعك من التقليد الأعمى الذي يمارسه العوام، وأعِد النظر في بعض المَورُوثات التي تُردِدُها كالببغاء. “فلن تعيش مرتين” “ولن تنزل النهر مرتين” وظل ينتقل من وادٍ إلى آخر، قافزا بأفكاره قفزة الكانجارو لا يُريدني أن أُقَاطعه أو حتى أرد عليه.
ازدادت دهشتي، تَأكَّدَتْ شكوكي، وثارت حفيظتي في الرجل الذي كان يرسم طريقنا للحياة يوما ما، إنه في طريق آخر، طريقٍ متوازٍ. زرع في قلبي غُصةً، وصِراعا يُزلزل خلجاتُ نفسي . زادت شطحاته، وانفلت من عِقاله ، واتخذ سبيله في الغَي هَرَبا.
شردَ عقلي قليلا، استفقْتُ على صوت ابنتي تُقدم لنا مشروبا ساخنا، ثم طَلَبَتْ مِني أن أُساعدها في تحضير موضوع عن الحرية. قررت حينها أن أدير دفة الحوار، وأن أفْصِل السُم عن العسل،قلت له: ماذا لو نزلتُ النهر مرة، أومرتين، أو ثلاث، أو حتى عشر؟ هل تتغير حياتي حتى لو لم انزل النهر مطلقا؟ الأهم عندي أن يستمر النهر في جريانه، والقمر في سطوعه، والشمس في أشعتها الدافئة.
ثم جاءتني خاطرة سريعة، وأمسكت بطرف الخيط لعمل هجمة فِكرية ووجدانية تُوقِفه عن شطَطِه، وترده إلى عقله، وتُدحِض منهجه الذي يقوم على التصديق بكل ما هو مادي، ومحسوس فقط.
- سألته:
- هل تحب الحرية؟ - نعم، هي مطلبي ومأربي.
-هل تراها وتلمسها بيديك؟ - لا ولكني أشعر بها، وأهفو إليها، وأُضَحِي من أجلها.
- إذن اسمح لي يا صديقي أن أقول لك بأنك متناقض. كيف لك لا تُؤمن ولا تُصدق إلا بما تراه، وتحسه وأنت في نفس الوقت تؤمن بالحرية، وأنت لا تراها، ولا تحسها؟!
تلعثم، زاد من شططه، واصفا أفكاري بالتخلف. انحنى للخلف، ألقى رأسه على الكرسي، وكأنه يريد أن يُحاصرني بأفكاره مرة أخرى. فكان لا بد له من صَدمة حتى يفيق. فقمت بتجهيز مشروبٍ ساخنٍ آخر، وفي لحظة تقديمي له تعمدتُ إسقاط بعضا منه على إحدى رجليه، صرخ من شدة الألم،ابتسمت من رَدة فِعلِه، غضِب مني، عاتبني، فعاجلته..
- هل تألمت؟
-نعم تألمت كثيرا. - هل ترى الألم؟
-نظر إلي بِحُنْقٍ، ولم يَنْبِسُ بِبِنتِ شَفَةٍ.
انتهت.
التعليقات مغلقة.