” أطوار القمر ” محمود حمدون
” أطوار القمر ” محمود حمدون
===
فلمّا غاب القمر تلك الليلة ولم تكن عادته أن يختفي رغم انتصاف الشهر العربي, و صفاء السماء واختفاء الغيوم ,فقد حملت بعض رحلي وذهبت إليه , لربما غاضب منّي , فبعض تصرفاتي خرقاء قد يُساء فهمها , كثير من مفرداتي تحمل نزقًا وتطيش أحيانًا كأحجار تُدمي سامعها , هُرعت إليه وخوفي يسبقني فعلمي بالقمر أنه يحزن بداخله ولا يُبدي ما يُخفي وأن ذلك يشقُّ عليه .
في تلك البقعة التي رأيته أول مرة تطلّعت للسماء, ناديته كما أفعل كل مرّة , لكن خاب مسعاي ولم أظفر سوى برجع صوتي وبعض من عويل ريح أتت من بعيد .
رفعت ناظريّ إلي السماء من جديد و,فتشّت كل ركن فيها ,عدا بضعة نجوم تومض بوهن هنا وهناك لم يكن حاضرًا , فأيقنتُ أن الأمر جلل وأن الغياب سيطول وربما لن ألتقيه ثانية , تلك اللحظة آمنت بما قالته ليّ عجوز قبيل بضعة أسابيع خلت : يا وليدي سيأتي يوم سيغيب قمرك , عليك أن تشرع من الآن وتغزل من ضوئه رداءً يقيك غائلة الأيام ..
لكنّي للحق تجاهلت كلامها , سخرت منها دون أن يشي وجهي بذلك , فأنا أملك وجهًا صخريًا أكتم وراءه براكين وزلازل لو خرجت لقامت الساعة من فورها , أوليت العجوز ظهري وتمتمتُ لها بكلمات قليلة : يا خالة قمري لن يغيب أبدًا, فأنا أمسك زمامه جيدًا , وإن فعل سيستأذن قبلها , فلن يغادرني دون إذن … فقاطعتني وهي تمسح السماء بعينيها الكليلتين : لا تُفرط في النظر لموطء قدمك , ثم مضت إلى حال سبيلها.
ذهبت إلى بضعة نفر من أصدقاء الطفولة , وغيرهم ممن عرفتهم في الصبا وآخرين ممن جاورتهم في العمل أو جالستهم بالمقاهي المتناثرة بشوارع المدينة , سألتهم : هل ستطول غيبة القمر ؟
منهم من جاهر بالقول :يا راعاك الله, القمر ساطع بدره في السماء منذ أيام , يبدو أن عينيك كلّت بفعل الزمن , أجزم أنيّ لمحت سخرية بين ثنايا كلماتهم , بعضهم رأفوا بحالي وردّوا بإيجاز : للقمر يا غالي أطوار بعضها نعرفه وأكثرها نجهله وأنت أدرى بحاله منّا جميعًا .
لم يبق منهم غير صديق ظل صامتًا , فرجوته أن ينطق ففعل وقال : انتظره عند آخر مكان افترقتما فيه , حتمًا سيعود إليك ..
أجبته : فعلت كثيرًا مذ غاب , غير أنيّ لم ألتق سوى عجوز ألقت إليّ بتعويذة لم أفهم منها شيئًا , حدّثتني عن رداء أغزله من ضوء القمر ..
-فهل فعلت؟!
قلت: لا ,
ردّ بضيق : ليتك فعلت , ليتك فعلت , ثم قام ولملم بعض شأنه ودون أن يلتف إليّ قال: لقمرك أطوار أنت أدرى بها منّي ..
التعليقات مغلقة.