ألبوم الصور بقلم حيدر الدحام
امام مرآة خفت بريقها وتلاشت ملامحها ، مد يده ليتحسس ما فعله معول الزمن من تجاعيد تشبه أودية حفرتها المياه الهادرة جرفت معها كل ما صادفته من حجر وثمر ، تخفي خلفها معاناة سنين ورحلة شاقة لم تفارق أحداثها مخيلته .
فغر فاه وتجهم وجهه ، ركز نظره على المرآة الشاحبة التي تشبه لون بشرته .
- هل حقًا هذا انا ؟!!
أشاح بنظره متذمراً ، أخذ نفسًا عميقًا كأنما سحب خلاله كل هواء الغرفة لرئته المتعبة من أثر تدخين لم يفارقه منذ مراهقته .
فتح دولابه الصغير المليء باغراضه وكتبه لتنبعث منها رائحة كالتراب عند تساقط المطر ، تناثرت دفاتر ذكرياته والبوم صوره وأشرطة ( أغاني عبد الحليم ) التي يعشقها كحبيبته .
رفع البوم الصور من الأرض ولملم الباقي ودسه في الدولاب بلطف .
تردد والقلق يملأ تفكيره ، هل يفتح ألبوم الصور ، أم يطوي هذه الذكريات الى الأبد ؟!!
أشعل سيكارته وجذب منها نفسًا عميقًا ، وتصاعد الدخان متراقصا على أنغام ( قارئه الفنجان ) .
عندما يصل الأنسان الى عمر الخمسين تتحول طباعه الى الهدوء ويترك الانفعال ، لا يزعجه إلا أن يمر يوم جديد سريعا، عزاؤه الوحيد صوت العندليب الأسمر !!
لم ينتبه ألا وقد أجهز على علبة السكائر كاملة ، أحس بضيق شديد في صدره ، حاول الصراخ ، ضرب رأسه بباطن كف يده ، نهض وبدأ يجوب الغرفة جيئة وذهابًا … أخيرًا قرر تصفح الصور . - من أين أبدأ ؟!
- هل من صور المدرسة ، الطلائع ، الكشافة ، أم العمل الشعبي ؟
- هل من صور أخي الشهيد في حرب القادسية ، أم من صور معسكرات الطلبة والجيش الشعبي ؟ أو من صور حرب الكويت وأيام الحصار ؟!
- لا .. لا .. ساترك كل هذا جانبًا … سأتصفح صور الجامعة فأنها أجمل : أصدقائي ، زميلاتي … حبيبتي رنا … آه كم كنت أحبك ، لكن خطفك مني من لا يستحقك ، وما زلت أدافع عنك رغم خيانتك .
ترقرقت عيناه بالدموع ، رجفت يده وهي تحمل صورته مع سيارته الجديدة خلال سفره وأصدقائه الى ( الحبانية ) ، رمى بثقل جسده المتعب على كرسيه محاولًا الهروب من تذكر أحداث تلك الليلة المشؤومة قبل خمس وعشرين سنة . - كانوا أجمل ثلاثة أصدقاء لي ، بسبب رعونتي وطيشي خسرتهم ، لماذا يا إلهي!! انا من يستحق الموت وليس هم .
كانت ليلة ( عيد نوروز ) أتفقوا على أن يكون احتفالهم مميزًا ، أحضروا بعض المشروبات والمكسرات تصاحبهم أغاني هيثم يوسف وجورج وسوف ، استمتعوا كثيرًا ، غنوا ، رقصوا ، وعلت ضحكاتهم البريئة كأنهم قد علموا ان هذه ليلتهم الأخيرة .
في طريق العودة ، الوقت يقترب من الثالثة فجرًا ، بدأت جفونهم تثقل ويداهمهم النعاس بعد أن شربوا حد الثمالة .
وفجأة علا صوت منبه قوي يصاحبه صرير فرامل شاحنة طويلة ، كانت سيارتهم تتخطى الرصيف لتبلغ الطريق المعاكس تفاجأ سائق الشاحنة بما حصل في رمشة عين ولم تسعفه مهارته لتفادي المحظور .
أفاق بعد ثلاثة أيام ، فتح عينيه وأدارها في ارجاء الغرفة ، تحسس جسده ، فوجد جبيرة في اليد اليمنى وأخرى في ساقه اليمنى أيضا ، ضماد ملفوف حول رأسه ، والم شديد توزع على مفاصله . - أين انا ؟!
- أنت بخير ، العزاء لك بأصدقائك الثلاثة .
لم يستفق من الصدمة ولم يصدق الخبر ، الشعور بالذنب سيطر عليه واحال ايامه الى حزن وكآبة ، أنعزل عن العالم الخارجي ، وحبس نفسه في زنزانة غرفته ليجلد نفسه كلما أخرج ألبوم الصور .
التعليقات مغلقة.