أمنيات بعيدة
حنان العشماوي
منذ بواكير العمر كانت لها أمنية وحيدة لا تتغير ان تنال قدرًا بسيطاً من النوم الهادئ مصحوباً بأمنيات طيبة تتخللها دعوات بليلة هادئة تحف بها الملائكة
لكن من أين لها ذلك وقد كانت تدعو الله يومياً ان تنتهي الليلة بلا شجار حاد يصل الىّ أسماع الجيران ما بين أب يشتعل حدة من أقل خطأ وأم دائمة الصُراخ بسبب او بدون لمجرد إثبات الوجود
طفلة وحيدة نتاج زواج تعس بلا ادنى توافق
خلال إحدى المشاجرات ارتفعت يد الأب لتصفع الام فتسقط أمام ابنتها وترتطم رأسها بحرف الطاولة ويشج رأسها فما كان من الفتاة إلا ان إنطلقت كالسهم خارج المنزل تعدو على غير هدى تخترق السيارات المسرعة ويطرق اذنيها أقذع الشتائم والألفاظ بسبب عدوها دون النظر إلى السيارات من حولها
أخيراً بدأت تخور قِواها من التعب و أنفاسها تنسحب من جسدها الصغير الضعيف المرتعب سقطت أرضاً مغشيا عليها
قطرات من الماء البارد تُنثر على الوجه
فتحت عيناها على جمهور من الأغراب المحدقين
وأصوات لا تعرفها تتمتم بالحمد وتُحوقل على حالها
يدٌ حنونة أسندتها وصوت نسائي يهتف بها كيف ما اصبح حالك يا ابنتي
لم يخرج من الفتاة سوى همهمات متقطعةلا تفسير لها أخذتها السيدة بين ذراعيها حتى هدأت وبدأت في سؤالها
ما اسمك يا بنتي ، أين تقيمين ، ما اسم ابوك وأمك
والفتاة صامتة لا تنطق ببنت شفة
تعالى صوت لابد من أخذ الفتاة إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن العثور عليها تحسباً للإبلاغ عن فقدها
اتسعت حدقتا الفتاة رعباً حين سمعت كلمة قسم الشرطة
فما كان منها أن خلصت نفسها من يد السيدة وانطلقت هاربة لا تلوي على شئ
واختفت بين أجساد البشر المتلاحمة في منطقة باب الشعرية، سارت تائهة حتى حلول المساء
قرصها الجوع حين غازلتها رائحة شهية صادرة من عربة كبدة وسجق بلدي تقف على إحدى نواصي شارع الجيش ويلتف حولها عدد ليس بالقليل من الطلبة والعمال
أما صاحب العربة عجوز بشوش في أواخر الستين وقد تخلت عنه أغلب اسنانه
وقفت الفتاة تنظر الى أرغفة الفينو وسلطانية الكبدة يرتع بها الفلفل الاخضر حتى كادت عيناها تخرجان من مكانهما من شدة الجوع جلست القرفصاء فلم تعد السيقان النحيلة تقوى على الوقوف
آخر الليل بدأت الضوضاء تخفت ويقل الزحام في الشارع وانتهت مهمة العجوز بعد ان قاربت قُطع الكبدة والسجق على النهاية وبدأت أسراب القطط تزحف على المكان فقد كانت آخر طقوس الإغلاق إلقاءالمتبقي من فتات الكبدة والسجق بعدغمس فتات من الخبز المتبقي من صحون الاكيلة في الباقي من السلطانية الفارغة فتأكل القطط ويعود العجوز راضياً عن عمل اليوم
حانت منه التفاته لمح على أثرها الصغيرة المستغرقة في النوم وهي متقوقعة بداخل جلبابها على الرصيف
اقترب منها وربت على كتفها قائلا اصحي يا بنتي إيه منيمك هنا
فركت عيناها بباطن كفها ونظرت إلى العربة المعدنية وحولها القطط وقالت انا جعانة يا عّم عاوزة شاندوشت
عصرت الصغيرة الجائعةبطلبها قلبه وذهب الى العربة وعاد بلفة من ورق الجرائد وضع بها عشاءه من الفينو واقتسمهم مع الصغيرة
التي سرعان ما التهمت الخبزات كقط جائع دون حتى ان تلتقط انفاسها
انتظر حتى فرغت من وجبتها ثم سأل انتي منين يا صبية
ردت بصوت خافت دون ان ترفع عيناها إليه
أنا تايهة يا عم هربت من بيت ابويا عشان مرات ابويا بتضربني بعد ما امي ماتت وبتخليه هو كمان يضربني لما يرجع أخر الليل
نظر العجوز إليها وخامره الشك في كلامها لكنه لم يكن ليتركها تفترسها كلاب الشوارع من حيوانات او بشر
بصوت حاني قال لها بصي يا بنتي انا اكبر من جدك لو كان عندك جد وعايش وحدي انا وقطط الشارع في حوش قديم نواحي حمام التلات
تجيش تقعدي معايا وابقى زي جدك تساعديني في غسيل الاطباق وتنظيف الحوش وتقطيع الفينو وتبقي معايا نقف على العربية وتلمي الفلوس من الزباين
نظرت إليه الفتاة ولسان حالها لا يجد سوى هذا العجوز حلًا
لملمت جلبابها المتفرق حولها على الرصيف وقامت ونظرت إليه قائلة خلاص هآجي معاك يا جد ، أمسكت بيده التي غزتها علامات الزمان من جلد سميك متغضن وسارا معاً تحت قبة السماء وكل منهما يمني نفسه بما يفتقد
هو لقد بعث له الله أسرة لم تكن له ابدا ، طفلة تقول له يا جد
وهي قدراً من النوم الهادئ مصحوباً بأمنيات طيبة تتخللها دعوات بليلة هادئة تحف بها الملائكة
لكم مني أطيب الامنيات بنوم هادئ وليلة سعيدة
التعليقات مغلقة.