أنياب مدينة قصة قصيرة بقلم.. عصام الدين محمد أحمد
يدفع ثمنًا باهظًا لتذكرة الحافلة.
المقعد مريح.
تستهويه مشاهدة الطريق وهو ينطوي تحت العجلات.
تتحقق نظرية نسبية المكان والزمان، تودِّع أناسًا وتستقبل آخرين، وسرعان ما يلحق الآخرون بالسابقين؛ هذا ما أقنع نفسه به!
مئة ألف حياة أو يزيد في الدقيقة، شريط سينمائي كامل عن البشرية:
“امرأة مغتصبة للتو، شاب يكتنفه الخدر.
خناقة في زقاق، الغالب والمغلوب في نقطة الشرطة.
سيارة تصطدم بأخرى عملاقة والدماء مسالة على الأسفلت.
مأذون يعقد قرانًا، وآخر يوثق طلاقًا.
أولاد وبنات يخرجون إلى الحياة، شيوخ وكهول تحملهم الأعناق إلى مثواهم الأخير، مشاحنات بين زوج وزوجة.
أرزاق تُنتزع من هنا لتهبط هناك.
عمارات تناطح السماء، بيوت تقبرها الأرض.
أضواء النيون تُزين الدروب، ظلام كالح، بائع بقالة يجاوره قصاب، وفي الحارة المجاورة مخبز ووابور طحين.
شوارع مدككة بالسيارات، مواكب عُمد وشيوخ خفر، مقاهٍ مبثوثة في شتى الأرجاء، أبقار وجواميس في طريق العودة، حمير يمتطيها الصبيان.
همسات عشق خلف الجدر، علاقات جنسية تصحبها متعة.
خطيب يحث ندماءه على التوبة، كنائس تحرسها مدرعات ، قضاة تطمسهم الضمائر.”
ها هي الحافلة تلج الصحراء، تخترق آيات الحياة:
“عبد يتدثر كهفًا صخريًا، يتأمل الطبيعة، يلهث خلف الحقيقة.
وعلى مبعدة أمتار مُطَارد يشيد مملكة من الحصون الصخرية، ينشر النواطير في شتى الاتجاهات، يرسم نموذج مجتمع القنص والمتعة.
زجاجات خمر فارغة ملقاة فوق الكثبان والرمال، يختبئ في جنباته كل من ناوأ النظام، وفرض أوامره ونواهيه.”
تمخر الحافلة عباب الفراغ، تقتل المكان بمدية الزمان.
تتناوبك الأنواء، تطرحك الطموحات أسفل أقدام الحاجات، عمل يعقبه عمل، طعام وشراب ولحم أنثى:
أتعتقد في نفسك القدرة على الخلاص؟
ستظل دومًا عبدًا للهلاوس، تدخل خلف الأبدان مخترقًا الجدر، رضا، تمرد، صياح، همس.
هاجمتك مشاهد زيارة العام الماضي:
” تصل إلى سوهاج، مدينة الألف مقهى ومقهى، وكأن أهلها صنفين، أحدهما يقدم المشاريب والآخر يتجرعها.
توجهت على فورك إلى مرآب السيارات المتجهة إلى (أخميم)، تصعد إحدى السيارات.
تعبر السيارة الكوبري القديم ، كتل من الحديد الثقيل، تربطها المسامير، ينقسم إلى ثلاثة أجزاء، جزءان ثابتان والثالث الذي في الوسط متحرك.
كل حارة تسمح بمرور سيارتين متجاورتين ، السكة مرتبكة بالسيارات .
تخلف مربع الزحام بعد معاناة الاحتكاك والمرور، يتسع الطريق، ثم يضيق.
تتشكل جزيرة وسطى مزروعة بالنجيل، تتخطى الدائرة التي تلف حولها السيارات الذاهبة والآتية من الكوبري الجديد.
تمر بهم الكاتدرائية والمستشفى والمحكمة ومدرسة التجارة، يستقبلهم تمثال لغانية فرعونية مموهة الوجه، يقال:
إن اسمها خنت آمون.
يحاذون المعهد الأزهري ومجلس المدينة.
تنحرف السيارة يمينًا مسافة خمسين مترًا وتنحرف يمينًا ثانية.
تمتطي الربوة، تعافر السيارة الارتفاع، وتتجنب الاصطدام مع السيارات المقابلة.
تتخطى مسجد سيدي كمال الدين والكنيسة.
تنزلق السيارة من القمة، على شمالها الجبابين، وعلى اليمين مرقد خنت آمون، تنساب السيارة واقفة أمام النادي الرياضي.
تنزل متعبًا مضعضع البدن.
عربات الفاكهة والخضار تتداخل وتتماوج، يجوارها عربة بسبوسة وكنافة وجلاش.
كشك الصحافة يتناثر حوله الزبائن كل صباح، والذين يكتفون بقراءة العناوين من الوضع واقفًا، يدفعون جنيهًا ويقرءون جميع الصحف.
عربات الفول والطعمية متراشقة كالمسامير في لوح خشب.
متاريس الحديد تقطع أواصر الميدان، لتقطع الطريق أمام السيارات.
على يمينك مركز الشرطة، المبنى قديم، يتكون من دورين فقط، مساحته لا تتجاوز القيراطين، أمامه مئات من أكياس الرمال، لبد خلفها عشرات العساكر.
أقصى يمين المركز زاوية للصلاة.
يتجول في الشوارع التي تغيرت ملامحها كثيرًا، تمددت المدينة بصورة لافتة، تلاشت الجناين التي كانت على أطرافها، استهلكتها الشوارع والحواري.
فرض الأسمنت سطوته على المشاهد، عمارات عملاقة نبتت فجأة، وصارت الأرض لا تنبت إلا طوبًا ورملًا، عمارة تجاورها أخريات ومعظمها لا يسكنه أحد، إعلانات بيع الوحدات السكنية تملأ الأرجاء.
تضاعفت المقاهي ، تلاشت ورش النجارة والحدادة من على الخريطة، فمن أين هذه الأموال الطائلة؟
كلمة وحيدة تلوكها الألسن الحانقة، وهي الآثار.
اكتسبت شهرتها من عهد مينا موحد القطرين.
أضحت مركز قيادة الجيش، تعاقبت الأزمنة والأجيال، والكل يُخلف آثاره.
أهل المدينة يحيون موسم الحصاد، يحفرون أسفل البيوت العتيقة.
ثمارهم ناطحات سحاب، ولكنها للأسف خاوية.
لم يحب المدينة ولم تحبه؛ ربما لأنه غريب عنها!”
رجع بذاكرته لسنواته الأولى في الحياة:
“قذفت أمواج الوظيفة أباه إليها، استقر به الحال في بيت يواجه النيل، قضوا في هذا البيت عشر سنوات، اشترى أبوه تلفازًا بالتقسيط .
انقلبت الصالة إلى دار سينما لكل نساء وأولاد الشارع، وباتت تمثيلية الساعة السابعة شيئًا مقدسًا، تعطلت الحياة كل مساء.
لا يمكن إغلاق الباب في وجه النظارة.
فأمسى البيت الذي يسكنونه منتدى ثقافيًا.
رغب المالك استثمار البيت، بهدمه وإعادة البناء وتوسعته بالبيت الذي يجاوره، فنشبت معارك نسائية، أمه لا تجيد العراك، وكان للنظارة رأي آخر، فأوسعوا زوجة المالك ضربًا ولقنوها من الدروس أفظعها، دومًا يؤثر أبوه السلام، ويبتعد عن المنغصات.
فانتقل بهم إلى بيت يبتعد كثيرًا عن القديم.
نشبت معركة حامية مع المالك الجديد، حيث جمع لهم نفرًا من الأشقياء، تحرشوا بأبيه، أوقعوا طربوشه.
هذه إهانة لا تغتفر، ما لأبيه وألاعيب الخناقات، اشتبك شباب الشارع مع المهاجمين، انقضت بضع ساعات وتبدل الحال.
حضرت السيارات المدككة بالرجال والسلاح من الكوامل، وهنا أدرك الجميع أن لأبيه عزوة وأهل يدافعون عنه.
أمست (أخميم) مظلمة.
رجال لا يهابون الحكومة، تبدل موقف أبيه مع أعمامه، يقول وقد اكتنفه الغضب:
خذ الرجال وارحل يا حاج أحمد.
يزعق الحاج أحمد أصغر أبناء العمدة:
البلد الذي لا يحترم الغريب يفتقد الرجال.
يهدئ أبوه من روعه، مطيبًا خاطره:
ليس كل ما يفعله الشيطان زين ونلغي عقولنا، المساكن غير المؤجرة على قفا من يشيل.
يحتد في النقاش:
لا بد من تأديب هؤلاء الذين لا يراعون حرمات الغرباء.
يلتقط أبوه الخيط:
ألم تر كيف اعتذر لي مأمور القسم وربط الإفراج عن المتهمين بقبول الاعتذار؟
أخيرًا يهدأ الحاج أحمد ناصحًا:
تذكر أن لك أهلًا يملكون رد الصاع مئة صاع.
ولكنه رأى أباه وهو يبكي.
يكابده الصراع ما بين العفو والانتقام.”
ثماني ساعات كاملة تصرعك خلف المشاهد، وهنا تنتهي الرحلة، لن يجن من معاناته أية فائدة، لم يغادر محطة الوصول بعد، ويقرر العودة ، للمرة الثانية يدفع ثمنًا باهظًا لتذكرة الحافلة.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.