إركنها … مجدى سالم
إركنها.. ..
بقلم/ مجدي سالم
يتأكد بحسه وبأذنه أن السيارة قد توقفت تماما قبل أن تمتد يده إلى حيث اعتاد أن يجد مقبض الباب.. يستغرق وقتا أطول مما اعتاده حتى يجده.. تصل يده للمقبض لكنه يبطيء في فتح الباب.. يخشى أن يكون أحدهم أمام باب السيارة.. يسمع صوت الباب الأمامي ينفتح ويشعر بحركة.. يأتيه صوت أحدهم من الخارج.. آه.. إنه صوت سائق سيارة الأجرة التي جاءت بهما من البيت.. يميزه بصعوبه فالرجل لم يتكلم كثيرا في الطريق.. لكنه جادلها كثيرا في أجرة السيارة.. إنه سعر البنزين.. وزحام الطريق.. وحرارة اليوم…..
- ياللا ياحاج.. هو احنا حنبات فيها.. دا ماكانش مشوار..
ينفتح الباب وتمتد يد يعرفها جيدا لتمسك بيده.. يتحسس حركته حتى لا يتعثر ثانية مثلما حدث عند البيت.. ورغم أنه يعلم أنها خطوات قليلة من السيارة إلى باب المستشفى إلا أنه انتظر حتى تأخذ به نفس اليد إلى الرصيف.. يذكر كيف كان الأمر في بداياته.. مجرد زغللة بالعين.. كان يوقف سيارته هنا فما يلبث أن يقفز منها في خفة إلى الطريق مسرعا إلى الداخل بعد أن يلقي بمفاتيحه إلى السايس.. الذي كان مازال شابا وقتها قائلا في مرح..
- فين إفراج.. يا عبده.. خدها يا عبده اركنها.. اوعى الونش يشيلها ياض.. أموتك…
يحبس دمعة خجلى.. يقول لنفسه.. أسوأ شعور في العالم أن تفقد بصرك.. وقد كنت يوما بصيرا.. قد كنت يوما تعمل بمهنة دقيقة تحتاج بصرا ثاقبا.. يتحسس بقدمه كل شيء في خطوه.. يخاف أن يصطدم بكل شيء.. فهو لم يعتاد بعد على أن يمسك بهذه العصا.. لم يعتاد بعد أن يكون.. بلا بصر.. أعمى.. تتردد في ذهنه عبارات الطبيب القاسية في الزيارة الأخيرة.. يتعجب.. كيف استطاع هذا الرجل.. الطبيب.. الذي يبدو أنه مازال في مقتبل العمر.. أن ينطق بهذه الكلمات العنيفة وكأنه يتحدث إلى صخرة صماء ليس بها حركة ولا تحس ولا تشعر..
- هو انت ياحاج عشان كنت ميكانيكي.. فاكر إننا حنشيل ترس ونحط مكانه واحد جديد.. لازم تعرف إن عينك مش ح تتصلح زي الماكينة.. النظر مش حيتحسن.. إحنا بس بنحاول نوقف النزيف والإرتشاح.. وممكن نضطر نوقف الحقن لو مفيش نتيجة….
يصطدم بشيء يعيده إلى ما حوله.. آه إنها حنفية الحريق القديمة.. يتذكر مكانها الآن.. كان يضحك كثيرا وهو يتندر بها.. فهي في حالة خربة منذ سنين طويلة.. فلا هم يستبدلونها بأخرى ولا هم رافعوها من مكانها.. كنت أقول إنها ضرورية.. كي يتعثر الناس بها.. فلا يسبون باقي ما حولهم من رصف سيء ولا رصيف متهدم ولا أعمدة إنارة بلا إنارة.. أو.. و..
- ياللا يا بابا.. الناس واقفة مستنياك تعدي.. كتر خيرهم..
- هو احنا برضه حندخل لنفس الدكتور ده.. والله بقيت باكره المشوار ده.. ولا له لازمه.. بس مصاريف ووجع قلب.. وبرضه بتصممي تجيبيني..
تربت نفس اليد على يده.. يتقدما بضع خطوات.. ثم تتوقف.. تنادي..
- دكتورة أمال.. دكتورة آمال.. هو الدكتور حسن جه ولا لسه.. المره اللي فاتت لطعنا هنا..
- الله.. والله إنتي بنت حلال.. عندي ليكوا خبر هايل.. والله جت لنا مادة حقن للعين جديدة من بره.. بيقول الدكتور إنهم منتظرين منها نتائج هايلة.. يا رب بالشفاء.. أيوه الدكتور حسن جه..
يتبدل وجهه وتنفرج ملامحه قليلا.. تخف قطبة الجبين لتحل محلها ابتسامة صبوحة..
- يعني لسه فيه أمل.. يا دكتورة آمال.. يا ست الدكاترة.. ممكن ارجع أشوف تاني.؟
- الأمل في وجه الله يا حاج.. ربنا موجود.. والله إن شاء الله تبقى زي الفل..
- الله يبارك فيكي.. الله يبارك فيكي.. هو فين.. يا إفراج.. يا عبده.. يا عبدوووا..
- يا حاج أنا أهو.. بس معلهش بقيت بامشي بالعافيه بقى.. حناخد زماننا وزمان غيرنا..
- ربك موجود ياض… خد.. خد.. إركنها العصاية عندك لما ارجع لك..
التعليقات مغلقة.