إطلالة في سطور (08) على “الققج” بعنوان “مليحة” للقاصة السورية “خديجة السيد” بقلم الناقد الفني الدكتور عبد الحميد سحبان
إطلالة في سطور (08) على “الققج” بعنوان “مليحة” للقاصة السورية “خديجة السيد” بقلم الناقد الفني الدكتور عبد الحميد سحبان
“مليحة”
“توسطت نافذتُها المسجدَ وداره. كلما مرَّ من أمامها أسكرته رائحةُ عطرها؛ تصدَّرَ المحرابَ شارد الذهن ذات مساءٍ، اختلسَ نظرةً؛ غابَ الإمامُ عن الصلاة.”
نص يعيد طرح السؤال العريض، هل المرأة هي المصدر الأبدي للإغراء كفكرة سائدة في العديد من الثقافات الدينية، التي أثقلت كاهل الأنثى بالخطيئة الكبرى المغيرة لمجرى التاريخ بأن تسببت في تقهقر العنصر البشري بالنزول من نعيم الجنة إلى شقاء الأرض؟ لكن النص في نظري يعالج قضية الصراع بين الإثارة والورع، بين العفة والخطيئة في إطار التجاذب الفطري لشِقَيْ المعادلة التي تحكم كَفَتَيْ العالم الذي نعيش فيه: المرأة كعنصر طبيعي للجذب، والرجل كعامل فطري للانجذاب.
1- شباك الغرام:
“نافذتها” بلغة النص الذي يرمز في كل القصص الغرامية إلى الثغرة التي تطل منها الفتنة والمحل الأمثل للجذب والانجذاب. النافذة في هذا القص تمثل المحفز الأساس لإثارة البطل الورع واستمالته من خلال مؤثرات ضمير المؤنث الذي لن تفلح كل مظاهر العفة في مقاومته لتسقط الأقنعة، وينتصر الإغراء على كل تحصينات ومتارس الرزانة والرصانة؛ كما هو شائع.
2- عناصر إغراء ضمير المؤنث:
“المليحة” من نافذتها المتحكمة في المجال بشكل كبير لأنها تتوسط المكان كدلالة رمزية على توسطها القلب والوجدان في آخر السرد، وبرائحتها التي تعمدت القاصة أن تنعتها بالمسكرة إشارة منها إلى أنها لا محالة ستفقد البطل توازنه وتعقله ليقع في شرك مصيدة الفتنة التي لن تتمكن حصون عفة المكان من دفعها ومجابهتها في مفارقة موفقة على استحالة التصدي للإغراء ولو من أعتى قلاع الطهر والاستقامة والورع، فكان الغياب عن المحراب انزلاقا من قمة الرشاد إلى حضيض الغواية تلميحا بلاغيا راقيا لقصة مغادرة الجنة بحثا عن الفاكهة المحرمة.
2- طهر بلا أسلحة:
الطهر حالة نفسية واعية، أما الانجذاب فهو حالة فيزيولوجية طبيعية، وهكذا يصعب على لطهر كفعل إدراكي معتمد أن يواجه الإغراء كغريزة متمكنة. لقد حاولت القاصة أن تحصن البطل بأقوى متارس الورع والعفة وسط بيت التعبد ومحراب الصلاة، لكن الأصل أصل ومن شب على شيء شاب عليه، ولا حول له ولا قوة. إن الصراع بين الإثارة والاستقامة صراع غير متكافئ على الإطلاق وينتهي دائما لصالح الأكثر تمكنا من النفس. وهكذا هُجر المحراب وسقط الطهر في وحل الاستدراج.
3- المقاربة الأدبية للعفة والإغراء:
هناك تماه لافت لهذا القص مع قصيدة “قل للمليحة”، وكأن لسان البطل الوقور في النص يقول لغادته التي تطل عليه من النافذة بالمسجد وهو يتعبد في محرابه ” أنت تَرَيْنَنِي بمكان ينضح بالعفة، ليتك ما رأيتني به لأنه منبع الوقار، لو أسعفتني بحبل الود أصعد به إليك على ما فيه من عار”. إن الشاعر الأموي قد رجح أصلا في هذه المعادلة المختلة الاستسلام على الرصانة. وبالرجوع إلى الطبيعة البشرية فلا يمكن لنا سوى تغليب الفطرة كما قامت بذلك صاحبة النص محقة.
4- نضج القناعة النسوية لدى القاصة:
النص بالرغم من أنه يبدو قد صيغ بشكل كلاسيكي؛ منطلقا من مصيدة الإغراء وصولا إلى حقيقة الوقوع في الشرك، فهو في الحقيقة التقاط من الزاوية الأنثوية للعلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة بما فيها من تجاذبات وما ينجم عنها من تداعيات مع الاصطفاف الواضح إلى جانب الحس الأنثوي الفطري في القضية.
قص يعترف بسحر المرأة وقدرتها الفائقة على إعادة صياغة قناعة الرجل وتغييره بالكامل، بحيث إن هذا التأثير القوي قد يصل أحيانا كما في هذه “الققج” إلى تغيير مسار رجل وقور بتركه صلاته وتعبده عبر تفوق المصدر الفطري للإغراء النسوي على العفة المكتسبة.
نستخلص من هذا النص نضجا عاليا للقضية النسوية لدى الكاتبة التي أرادت أن تفصح للجميع بأن المرأة بفطرتها ستظل “هي هي” بفعل كينونتها المتميزة المختلفة تماما عن الرجل، لأنها تحمل سرا من أسرار استمرار النوع البشري عبر الجذب الفطري للرجل بالرغم من كل المتارس التي يمكن أن يتحصن بها كي يؤمن نفسه من الوقوع في شرك هذا الانجذاب الغريزي.
التعليقات مغلقة.