إطلالة في سطور (09) على ق ق ج” فقرٌ ” للأديب العراقي “حسن هادي الجنابي”بقلم الناقد الفني الدكتور/ عبد الحميد سحبان
إطلالة في سطور (09) على ق ق ج” فقرٌ ” للأديب العراقي “حسن هادي الجنابي”
بقلم الناقد الفني الدكتور/ عبد الحميد سحبان
“فقرُ…”
” رآهم يأكلون ويتسامرون.. لم يسعفه الصبر فقد نفد.. خوى من كثرة الجوع.. عندما سقط قرب المائدة.. راحَ في غيبوبةٍ .. استفاق ونهض على رائحة الطعام.. أكل بنهم.. ضربوه لحد فقد وعيه ثانيةً.”
ما أحوجنا في هذه الظروف الصعبة التي ارتفعت فيها نسب الإجهاد النفسي إلى مستويات جد مقلقة؛ إلى لحظةٍ مرح كواحة في صحراء قاحلة !!! لحظةٍ يمكن للأديب الساخر أن يمنحها للقارئ المحتاج حاجة ماسة إلى مثل هذه الفلتات؛ علما أن معظم الأخبار والكتابات تتسم بالقتامة ولا تحمل إلا ما يزيد من درجة التوتر النفسي للأفراد؛ وكأن العالم ليس فيه إلا القبح والدمامة.
سنعود في هذه الإطلالة إلى موضوع “السخرية” المطلوبة بشدة اليوم في ظل الظروف العصيبة التي تعيشها الإنسانية وبالأخص بعد الأزمة التي تسبب فيها وباء “كورونا” الذي عمق نسبة القلق والشك في جمالية الحياة.
وللتذكير، فإن صاحب النص يكتب في لون “السخرية السوداء” التي تعد لونا صعب المراس لأنه في حالة عدم التمكن من تقنياته يمكن أن يتحول إلى عكس ما يرمي إليه. هذا اللون الأدبي ينطلق من واقع مر، وبدلا من تناوله بالحسرة يتم التطرق إليه بالمزح الممزوج بلمسة من التهكم، فتكون النتيجة أحيانا خارجة عن سياقها لتصبح مؤذية أكثر بدلا من أن تنشر الدعابة والبهجة. الأديب الذي اخترنا له هذا النص هو قاص ساخر بامتياز، وبعد تتبعي لعدد من قصصه اتضح لي أنه يتقن فن “السخرية السوداء” بنتائج بيضاء تنشر الغبطة بدون أي تأثير سلبي؛ وتصل بالقارئ أحيانا إلى حالة الضحك الهستيري كما حدث لي مع هذا النص، علما أن للقهقهة الحادة أثر تنفيسي وعلاجي لمظاهر الاكتئاب الملحوظة حاليا على قسمات الوجوه التي تنضح بالحزن والأسى على الواقع المرير والمصير المجهول.
1-السخرية السوداء “أدبُ وكياسةُ اليأس”
1(L’HUMOUR NOIR EST LA POLITESSE DU DESESPOIR)
إنه شعار الشاعر البلجيكي (ACHILLE CHAVEE) “أشيل شافي” الذي ينطبق بشكل لافت على طريقة الكتابة الساخرة للأديب العراقي المتميز الذي اخترنا له هذا النص، فهو جد مؤدب في كتاباته المصورة لأقصى حالات البؤس واليأس. نصوصه تدل على خبرته الكبيرة في الكتابة بكياسة وسلاسة بارعين. يعرف بشكل دقيق حدود التماس بين الهزل اللائق والتهكم اللاذع، دون خلط الأوراق حتى لا يجعل من إضحاك البعض إغضابا للبعض الآخر.
بالرغم من أن النص الذي بين أيدينا يصور حالة بؤس شديد فإنه يبقى محايدا إلى درجة كبيرة دون المساس بأي كان، وهكذا ينطبق شعار الشاعر الغربي على كاتبنا العربي.
2- فهم عمق الحياة الاجتماعية
(UNDERSTAND A SERIOUS SOCIAL LIFE)
كما قالت بذلك صاحبة كتاب (THE COMLEXITY OF WORKPLACE HUMOUR) 1، فالسخرية عموما تساهم في التعريف بمساوئ المجتمع وتعرية الواقع المسكوت عنه، كما هو الشأن بالنسبة إلى هذا النص المتحدث عن موضوع الفقر المدقع الموصل الإنسانَ إلى التضور جوعا في القرن الواحد والعشرين، الذي من المفترض أن تقطع فيه البشرية مع موضوع المجاعة نهائيا نظرا للتطور الفلاحي الذي وصلت إليه الإنسانية، لكن الواقع لا يرتفع، والنص الذي بين أيدينا ليس سوى مفتاح فقط لما يخفيه من التداعيات الأخرى المختبئة وراء شجرة الجوع التي تخفي غابة الحرمان بكل أشكاله وأنواعه.
3- انتقام التعاسة
(LA VENGEANCE DU MALHEUR)
إن هذا القص عبارة عن صرخة التعاسة والانتقام من الواقع المر. صدرت من تدوينة أدبية متميزة عن أديب ساخر يصور غيبوبتين مترادفتين للشؤم والنكد: الغيبوبة الأولى بفعل الإنهاك الشديد و”الخواء” -بلغة النص الموفقة- بمعنى قمة المسغبة وعدم القدرة على مقاومة مشهد تناول جماعة محظوظة من الناس لوجبة دسمة، والغيبوبة الثانية بفعل الضرب الشديد لرجل لم تعد له القدرة على مقاومة إملاقه، فأخذ يأكل غَذاء غيره متجاوزا الخط الأحمر بالتجرؤ على ما لغيره. لقد انتقم الكاتب باسم التعاسة والعوز من خلال هذه المفارقة الساخرة.
4- صقل البعد الاجتماعي
(AFFINEMENT DE LA DIMENSION PSYCHOLOGIQUE)
السخرية عموما لها دور تهذيب البعد الاجتماعي وصقله، فالبرغم من الصورة القاسية التي بدا عليها النص من الحرمان المزدوج للرجل الفقير، الأولِ لعدم قدرته على أداء ثمن الغداء من جهة، والثاني لعدم سماح المجتمع له بالإجتراء على طعام غيره. النص رسالة ضمنية يوجهها الكاتب للمجتمع ليرأف بهؤلاء المحرومين الذين سمح لهم ديننا الحنيف بالتجاوز أحيانا في حدود سد الرمق، وفي ذلك قصة عميقة حين نهى فيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن إقامة حد السرقة عام الرمادة.
5- المزح عوض البكاء
(JOKING INSTEAD OF CRYING)
يجمع كل النقاد بأن للسخرية دورا إيجابيا مروحا ومنفسا عن الروح المضغوطة بالكثير من الإجهاد النفسي. وعلى هذا الأساس، فإن أسلم طريقة لانتقاد الواقع المر ليس بالتباكي والولولة التي لا تزيد الطين إلا بلة، وبالتالي يصعب معها تمرير الرسائل التي يطمح الكاتب إلى تبليغها. أما الطريقة الأسلم التي تصل بها الرسالة كاملة غير منقوصة فهي مزجها بالهزل والمزاح فيكون وقعها عندئذ أبلغ في النفوس، لأن البكاء من الضحك أوقع في النفس من البكاء أسىً. الأول يكون أكثر إيجابية وترويحا لارتفاع نسبة الإثارة الإيجابية للنفس، والثاني يكون أكثر سلبية لارتفاع نسبة الحزن والكآبة المبثوثة بين طياته. وفي نظري؛ لقد تمكن هذا الأديب الفذ من قلب الصورة السلبية إلى رسالة إيجابية بحيث أضحكنا في الوقت الذي كان من المفترض أن يبكينا على موقف مؤسف يشهد موت إنسانية الإنسان.
1- PATRICK MORAN, BERNARD GENDREL, “L’HUMOUR NOIR (HUMOUR NOIR ET NONSENSE) FABULA LA RECHERCHE EN LITTERATURE”.
(HTTPS://WWW.FABULA.ORG/RESSOURCES/ATELIER/?HUMOUR_NOIR)
2- BARBARA PLESTER, “THE COMPLEXITY OF WORKPLACE HUMOUR, (LAUGHTER, JOKERS AND THE DARK SIDE OF HUMOUR) “.
(SPRINGER INTERNATIONAL PUBLISHING SWITZERLAND 2016)
3- DANIELLE FORGET” L’IRONIE : STRATÉGIE DE DISCOURS ET POUVOIR ARGUMENTATIF “.
(HTTPS://APROPOS.ERUDIT.ORG/FR/USAGERS/POLITIQUE-DUTILISAT(
التعليقات مغلقة.