إنفلونزا الكتابة “تجربة كاتب ” بقلم د . عبد القادر فارس
دائما كنت حذرا من الإصابة بالإنفلونزا ، ولا أتأخر سنويا عن التطعيم ضد هذا العارض الشتوي الثقيل ، خاصة بعد توسع أنواع ” الإنفلونزات ” من الإنسان ، إلى باقي المخلوقات من طير وحيوان ، فهذه إنفلونزا الدجاج والطيور ، وأخرى إنفلونزا البقر والماعز والحمير ، إلى أن وصلنا إلى جائحة ” الكورونا ” ، وفيروس ” كوفيد التاسع عشر” الأخير والخطير.
والحمد لله أنني نجوت من كل تلك الإنفلونزات والفيروسات ، ولكني أعترف أنني أصبت بفيروس ” إنفلونزا الكتابة ” ، في وقت متأخر من عمري ، حيث بدأت الكتابة بشكل احترافي ، وكان ذلك بالكتابة في الصحافة ، بعد سن الأربعين ، في أوائل التسعينات من القرن الماضي ، وهذا لا يعني أنني لم أكتب قبل ذلك ، فلقد كانت لي منذ طفولتي محبة للكتابة ، وكنت منذ بداية المرحلة الإعدادية متفوقا في مادة اللغة العربية ، حيث كنت من محرري مجلة الحائط ، التي كان يكلفنا بها أستاذنا الأديب الراحل “محمد أيوب”، كما كان لي ملكة الإلقاء والخطابة ، وكنت من بين الطلاب الذين يتم ترشيحهم في المدرسة ، لتقديم البرنامج الصباحي ، أو إلقاء الشعر في المناسبات الوطنية ، حيث كان لي حب كبير للشعر والأدب ، فكان توجهي في المرحلة الثانوية ، تخصص أدبي ، وبعد انتهاء المرحلة الثانوية ، كان انخراطي في العمل الوطني النضالي والسياسي ، منذ نهاية العقد الثاني من عمري ، وهو ما أبعدني عن إكمال تعليمي الجامعي مبكرا ، كما أبعدني عن جني العِلم ، وحمل القلم ، إلى حمل البندقية ، ورفع العَلم ، ومرت السنون بين ترحال وعدم استقرار ، إلى أن حملنا القدر إلى بلاد البرد والثلج البعيدة ، في دولة كندا الجديدة (عمرها 150 عام فقط ) بعدما أصابنا في بلادنا القهر والضجر ، والمرض والملل .
كان” برج الجوزاء ” يبشرني بموهبة الكتابة ، وأن أصحاب هذا البرج سيكونون من أصحاب مهنة الصحفيين والكُتَّاب ، وجاءت لي الفرصة لي لإكمال تعليمي الذي بدأته في جامعة عنابة بالجزائر في منتصف السبعينات ، عندما عملت مدرسا للغة العربية بمدينة سدراتة بولاية عنابة ، عندما حط بنا الترحال للاستقرار في أرض الجزائر الحبيبة ، مع منتصف الثمانينات ، إثر الخروج من لبنان ، وبعد البحث في خيارات الدراسة ، وعلى الرغم من محبتي للغة العربية وآدابها ، فإنني فضلت دراسة علم الاجتماع ، نظرا لتنوعه الثقافي ، فهو” أب العلوم” الإنسانية ، كما يصفه العلامة ابن خلدون مؤسس هذا العلم ، ولاعتقادي أنني بدراسة اللغة العربية لن أزيد كثيرا في ثقافتي ، فأنا متأكد من قدراتي اللغوية ، التي اكتسبتها عندما عملت مدرسا لخمسة أعوام لمادة اللغة العربية ، وأن دراستي لعلم الاجتماع ولما يحتويه من علوم أخرى ، ستكتمل وتصقل موهبتي في الكتابة وحب اللغة ، بسعة الأفق الثقافي من خلال مجال أوسع بدراسة علم الاجتماع ، وكان اختياري لتخصص علم الاجتماع الثقافي في مرحلة الليسانس ، ثم علم الاجتماع السياسي في الماجستير ، ثم علم الاجتماع الاعلامي في الدكتوراه ، حيث هو الأقرب لمهنتي الصحفية ، حين كنت أعمل مراسلا وكاتبا في صحف ” عكاظ” السعودية ، و”القدس العربي” اللندنية ، و”الخبر” الجزائرية ” مع بداية عقد التسعينات من القرن الماضي ، وحتى نهاية العام 2016 ، حيث اعتزلت العمل الصحفي ، ولكن ليس الكتابة الصحفية ، حيث واصلت كتابة المقال السياسي ، والمقال الساخر ، سواء عبر صفحتي في فضاء ” الفيسبوك ” ، أو النشر في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية.
في سن الخامسة والستين ، وجدت نفسي أتجه للكتابة الأدبية ، وخاصة في القصة القصيرة والشعر ، وقبل نهاية العام 2016 ، أصدرت مجموعتي القصصية الأولى ( الرحلة ) ، التي هي بمثابة رواية في السيرة النضالية ، وديواني الأول في الشعر ، وبعد ذلك تابعت ما أكتب من مقالات وقصائد وقصص على صفحتي الشخصية في موقع الفيسبوك ، حيث كانت تُلاقي الكثير من الاعجاب والتعليقات الإيجابية من القراء والأصدقاء والمتابعين من المثقفين.
ثم كانت انطلاقتي الغزيرة في كتابة الأدب ، بعد وصولي إلى بلاد المهجر في كندا في بداية العام 2017 ، فكانت مجموعتي القصصية ” في أدب الرحلات : مدن وذكريات ” بما دونته من رحلات ، بداية في بلاد العرب ، التي أقمت فيها أو زرتها في ترحالي ، وصولا إلى بلد الاستقرار في أقصى الدنيا الآن .
بعد ذلك انهمرت الكتابة بشكل كثيف ، خلال أربعة أعوام ، ووصلت إلى ثمانية إصدارات ، بداية بمجموعتي القصصية المصنفة من النقاد كرواية الموسومة ” الحمير تعلن النفير ” ، والتي منعت من النشر لأكثر من ستة أشهر ، وتوالت باقي الكتب فكانت مجموعتي القصصية ” أحلام حائرة “،عن “حكايات نسائية” متنوعة بين الرومانسية والدرامية ، وديوان شعر في الغزل بعنوان ” حين البدر اكتمل ” بالإضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان ” على ضفاف المجهول ” ، وديوان شعر باللهجة المصرية ” في حب مصر ” ، ثم ديوان ” أوجاع وطن ” ، وأخير مع اندلاع جائحة الكورونا ، كانت مجموعتي القصصية الروائية ” الإمبراطور كوفيد التاسع عشر ” . ثمانية كتب في الأدب حصيلة أربعة أعوام، هناك من حقد وقال ما داعي أن تصدر وتخسر كل هذه الأموال ، بالطباعة على حسابك ، وهناك من انتقد ، وأنا أفرح بكل ناقد حقيقي ، وليس فقط بمنتقد ، وهناك من حسد عن عند ، ولكني لم أهتم لأي حاقد وحاسد ، وسأواصل مشوار الكتابة ، ولن يوقفني أحد.
ومع بداية هذا العام ، ورغم ما لحق النظر من بعض الضعف والضرر، فإنني شرعت في كتابة روايتين ، أولاهما في السيرة الذاتية بعنوان ” عندما تتحدث الأيام ” ، والتي أدعو الله أن ترى النور قبل نهاية العام ، لتكون باكورة انطلاقة أعمالي الروائية الحقيقية ، والثانية عن نضال شعبنا داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
هذه حكايتي مع ” لوثة الكتابة ” ، التي أصابتني بهذه الإنفلونزا ، بالسهر والأرق ، وتمددت في عقلي ويدي ، وقلمي يسيل بالحبر على الورق ، لتخرج بألم ولذة الولادة العسيرة ، لمتعة الكتابة الحبيبة ، لذا أجد أن كل كتاب يصدر لي ، هو بمثابة ابن من أبنائي.
وأخيرا : أبعد الله عنا وعنكم كل شرور الإنفلونزا والفيروسات والمرض ، ما عدا إنفلونزا الكتابة ، فهي المتعة والغذاء للروح ، والشفاء للعقل من كل مرض .
التعليقات مغلقة.