اسم حركي “العوار”محمود حمدون
اسم حركي “العوار”محمود حمدون
الناشر : مركز الحضارة العربية – القاهرة
أجالس في المقهى , جار آخر ” صالح ” ذلك الرجل الخمسيني , موظف حكومي كبير , لا يزال في الخدمة , يرتدي ليل نهار ” حُلّة ” كاملة , كما لا يتخلّى عن ربطة عنقه , حذائه لامع , يرفض أن يتعامل مع ” ماسح الأحذية ” ذلك الذي يجاورنا و يتسمّع لأحاديثنا , حتى حسبناه مخبراً أو جاسوساً زرعه أحدهم بيننا , حتى سأمنا قلقنا حياله فتركناه و شأنه .
قيلت بشأن ” الخمسيني ” أقاويل كثيرة نالت من ذمته المالية , وقد واجهته على استحياء بما سمعت , لكنه بفخر قال : لم تثبت أي تهمة ضدي .! أراجيف . سأقاضيهم جميعاً يوماً ما , يقول ذلك مذ عرفته .. و لم يفعل حتى الآن.
لم أر ” سبحته ” تغادر يوما يده اليمنى , تلك ” الزبيبة ” التي تستقر بمنتصف جبهته من أعلى , أكبرت فيه حرصه على الفروض , يُهرع إن سمع ” آذان ” العشاء , يقضي صلاته , ثم يأتينا سعياً و لسانه يلهج بذكر الله .. فترة حتى تهدأ نفسه بعد اضطراب .. أجزم أنه لا يمثّل دور التقي المؤمن , بل يعيشه بقلبه فعلاً .. أي تيه وضعت نفسي فيه ؟ كيف يجتمع النور و الظلمة بوقت واحد ؟
أم أن النقيضين ينبغي أن يجتمعا سوياً ؟
في لحظات المسرّة يتفاخر ” صالح ” ” بلصوصيته ” , قدرته على تطويع نصوص القانون و اللوائح , تلك المفاتيح التي يملكها و بها يفتح كل مستغلق , ما من باب مُحكم إلاّ و ” شفرة ” دخوله موجودة لديه ..
= الرشوة تهدم المجتمع , تُفسد , تعطّل التنمية .
فيردّ بثقة : نعم و أكثر من ذلك , لكننا بشر , فأنا لا أملك سوى مهارة القفز بين النصوص , لا يعنيني سد الثغرات بقدر توسعتها , اعتبرني شيطان المال العام , تلك وظيفة جُبلت عليها , قدر لا أملك منه فكاكاً , حسابي عند من يتيح لي الوقت و يمكّنني من الفرصة . ثم كيف يعالج المجتمع تلك الثغرات التي تكاد تهوي به ما لم يراها أحد !!, ما لم يستغّلها آخر رابض لها , فالصراع بيننا على أشده.
= صراع ؟ ماذا تقصد ؟ بين من ؟
صراع بين من يبحث عن العوار الموجود , و من يرون أنفسهم حُماة المجتمع , المدافعين عن الفضيلة , بين شياطين الأنس , ملائكتهم ..
وقف ” صالح ” عدل ربطة عنقه و نظر للشارع , مسح وجهه بيده , ثم أكمل حديثه: صراع بدء الخليقة يتكرر مئات بل آلاف بل ” مليارات ” المراتّ , بين النور و الظلمة , بين الأبيض و الأسود..
= أفيلسوف أنت ؟ أم تبحث عن مبررات لأفعالك ؟ لست أدري !!, أرى بداخلك نقطة بيضاء تتأرجح كبندول ساعة , تثير دهشتي , تدفعني للاقتراب منك , فأنت وحدك عالم مستقل , تعي ما تفعل و تدرك أخطائك , فحجم غوايتك معلوم من قبل , تضع وزرك على أكتاف غيرك , وجودك يستمر بوجود البشر على الأرض .. كما أن وجود أمثالك ضرر بالغ للغالبية , هؤلاء الذين يسيرون تائهين منكبّين على وجوههم , أنت تسرق قوت يومهم .. فكيف يبرر ضميرك غير ذلك؟
نفث دفعة كبيرة من دخان ” نارجيلته ” في وجهي , قائلاً : يا عزيزي لا تستقيم الحياة على وتيرة واحدة , فكُلّ مُيسّر لما خُلق له .
= كأنك تقول أنك جٌبلت على ذلك ؟ غريب أنت فعلاً .! الطبيعي أن يبرر اللص ” عفواً للكلمة ” مسلكه بظروف اجتماعية أو لقمة العيش أو غير ذلك مما سمعنا و لا نزال , تلك التي تُجبره على ممارسة لصوصيته , لكن أنت … ترى في عملك شيء يدعو للفخر.
توّهج حجر ” النارجيلة” بتأثير نفس شديد سحبه ” صالح ” , كتمه في صدره ثم أخرجه ببطء, همس: قلت لك من قبل , يبدو أن النسيان آفة تلازمك , أنني أتعثّر في الثغرات , تأتيني دون مشقة , فاستفيد بها .. لن يعرفوا قيمتي إلاّ بعد رحيلي ..
همست لنفسي و أنا أرقبه يطيح بالخصوم في لعبة ” الطاولة ” و أعلم يقيناً و الحضور , قدرته على الغش في كل شيء , دون دليل حيّ يدينه : كأنك نموذج لإبليس , فأنت طريد و قائم بالفعل بيننا , تسري بالمجتمع مسرى الدم في العروق .تفعل ما تشاء لكنه فعل المرغم المُجبر دون إرادة , كأنك تخضع لمنهج قسري. فأنت ” صالح ” اسماً … ههههه مفارقة أن يكون اسمك خير دليل على خيبة المعاني الكامنة ..
ظلّت أساريره منفرجة وقال : الاسم لا أهمية له , كلها رموز مجتمعية , فالاسم في النهاية ” حركي “
التعليقات مغلقة.