اسم مركب ” ذكريات تاريخية “
د.على الحفناوى
لدى المصريين عادة غريبة عند تسمية المواليد الذكور، وهى اضافة اسم ثانى لاسمهم تيمنا بشخص آخر، وغالبا باحد الأنبياء أو الرسل، فنجد لدى نسبة مرتفعة من المسلمين اسم محمد عليه الصلاة والسلام يسبق الاسم الثانى ليكون اسما مركبا أو مزدوجا للمولود.. ولأنها أيضا حالتى الخاصة، حيث أن اسمى المركب “محمد على”، يحضرنى بهذه المناسبة، أن أقص على أصدقائى أسباب اختيار هذا الاسم المركب.
في منفاه بسويسرا، أنجب جدى لوالدتى – الشيخ على الغاياتى – ولدا وأربعة بنات. وكان أكبرهم خالى محمد، الذى وُلد بجنيف بسويسرا حيث مقر منفى والده الشيخ على. وكان الطفل محمد حزينا بسبب مضايقات زملاء المدرسة من السويسريين، الذين كانوا يتعمدون مناداته بتشويها لنطق اسم “محمد” بالفرنسية، فطلب من والدته اخفاء هذا الاسم، والاكتفاء باسم أبيه “على” الذى يسهل نطقه… فأصبح اسمه الدارج “على” بدلا من “محمد”.
كبر محمد (أو على) وذهب يدرس الفنون الجميلة فى باريس بفرنسا، وصار رساما وفنانا يتعايش من انتاجه الفني ومن بيع لوحاته… وعندما عاد والده الشيخ على من المنفى إلى مصر واستقر بها، جاء الابن إليها مع زوجته الفرنسية التي عرفها أثناء دراسته في باريس ليقيم فى موطن والده… وعمل “محمد على” مدرسا بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة.
فى احدى أيام سنة 1948، قام خالى محمد برحلة صيد للطيور مع بعض الأصدقاء فى منطقة قناة السويس… وهناك، وقع حادثا أليما، حيث قام أحد أصدقاءه باطلاق خرطوش على حمام طائر، فأصاب بالخطأ كتف محمد على الغاياتى… هرع إليه أصدقاءه، فوجدوا أن اصابته تحتاج إلى علاج بالمستشفى، وكان أقرب مستشفى في ذلك الوقت هو مستشفى شركة قنال السويس بالاسماعيلية (نمرة 6)، فلم تكن الحالة تسمح بالانتظار لنقله إلى القاهرة، حيث كان ينزف بغزارة.
وعند مدخل المستشفى، منعهم مسئول الأمن من الدخول لأنهم ليسوا من عائلات موظفى شركة القنال، فطلبوا التحدث مع مدير المستشفى. ولما جاءهم نائب مدير المستشفى، اوضح لهم أن الحالات الاستثنائية التى يمكن قبولها بالمستشفى هى أن يكون المريض أو المصاب حاملا لجنسية أوروبية… فكان رد خالى باللغة الفرنسية، أنه من أبناء الجالية المصرية بسويسرا، وأن والدته فرنسية الجنسية، وكذلك زوجته، لكنه هو غير مزدوج الجنسية ولا يحمل إلا جواز سفر مصرى !!!
لم تشفع اصابته وشكواه فى قبول دخوله المستشفى الخاص بالشركة “العالمية لقنال السويس”. وظل أصدقاءه بجانبه يصرخون، حتى أغلقت فى وجههم أبواب المستشفى. وظل خالى “محمد على” ينزف حتى توفاه الله على باب هذا المستشفى الاستعمارى. وقام والده، المناضل الشيخ على الغاياتى بفضح ممارسات شركة قناة السويس عبر جريدته “منبر الشرق”، تلك الشركة التى كانت في الماضى سببا مباشرا لنفيه خارج مصر بمناسبة إصداره في سنة 1910 ديوان شعر “وطنيتى”، والذى هاجم من خلاله محاولات الانجليز مد امتياز شركة القناة.
كنت لا أزال جنيناً وقت حادث وفاة خالى، لم أولد إلا بعد أشهر قليلة. فكانت رؤية أهلى اعطائى اسم هذا الخال الذى راح ضحية حادث الصيد منذ أسابيع قليلة، ولكن… أى اسم…؟ محمد وهو اسمه الأصلى؟ أم على وهو اسمه الدارج؟ وبالطبع تم اختيار الاسم المركب ليبقى اسم جدى “على” داخل جدران البيت، واسم خالى “محمد” مذكورا بين أفراد الأسرة… ومع مرور الوقت، صار اسمى الدارج أيضا “على”، والاسم المركب “محمد على”.. وقد تصادف أنى درست الهندسة المعمارية بكلية الفنون الجميلة بباريس حيث درس خالى، ثم تصادف لاحقا أن أنشئت مزرعة خاصة بجوار موقع حادث الصيد الذى راح ضحيته خالى بمحافظة الاسماعيلية. (أما اسمى، فلم يكن صدفة) …
وتمر الأيام والسنين، وأجد نفسى على نفس حماسى ضد الأساليب الاستعمارية التي عانى منها الشعب المصرى طوال تاريخه، وعانى منها جد والدى الذى سيق للسخرة في عملية حفر القناة، كما عانى منها ومات بسبب جنسيته المصرية الرجل الفنان محمد على الغاياتى… ويقينا أن هناك قصة مأساة شبيهة في تاريخ كل أسرة مصرية.
التعليقات مغلقة.