اغتراب بقلم / علي جبل
إنه من المهتمين جدا بالواقع، يُحب العِلم. صاحب رؤية ثاقبة، وبصيرة نافذة، عندما تُحاوره تشعر وكأنه يحتوي العالَم بين راحتيه. تُنصِت له وكأنه امتلك ناصية العلم. تمنى الكثير منا لو امتلك نصف عقله، أو حتى ربعه، ناهيك عن بعض عِلمه. لم يُعالج أية قضية إلا وقد أنجز، وأوجز، وأصاب. فنَّدَ لنا الكثير من الحقائق فكذبناه، أبان لنا غُموض بعض المواقف فأهملناه. تطابقت كل أفكاره ورؤاه مع الواقع، ومع ذلك صدَّقنا أنفسنا، وكذبناه. عانى كثيرا من طرق التفكير السائدة، جَاهَدَنا بالعِلم، واجَهنا بالمنطق، كما حَاوَرنا بالاستدلال، جمع بين العقل والنقل، وازن بين الروح والمادة. أنْكَرْنَّا عليه عقله، أقللنا من شأنِه، وَلَكَمْ قال: استفتوا قلوبكم. فلم نتدبر، بل ران الجهل على قلوبنا، وعميت عيوننا عن الحقيقة الظاهرة التي كانت واضحة كانبلاج الصبح، ساطعة كشمس النهار في صيف قائظ، تهاوت أفهامنا حتى طلبنا الدليل على أننا في النهار والشمس ساطعة. شققنا عليه حسَدا وكِبرا، تطرفنا في الجِدال، فكُنا كمن كانوا على قلوب أقفالُها، بُهت العالِمُ من جَهْلِنا. صَمَتَ صمتَ القُبور، استنطقناه، فلم ينطق، استفتيناه، فلم يُفْت. عَزَف عنَّا جميعا، انزوى في بيته، تأكدَ لحظتها اننا بُلهاء، فالنهار لا يحتاج إلى دليل. هاتفته قائلا: لسان حالك يصفُنا بالحُمق، وصمتك يَصِمُنا بالجهل، وعُزلتك عنا صباح مساء توحي بالقنوط، يئٍسْتَ مِنَّا يأسَ إبليس من العالِم العابِد. نظر إلى ساخرا ولم يرُد. كابَدْناه، وكايَدْناه، فلم ننتَصِح، ولم نستمِع، ولم نتعلم، مع إقرارنا أنه ناصية العِلم، وعين المعرفة، بعضنا سخِر منه قائلا: ناصية كاذبة جاهلة.. إنه في غربة داخل وطنه، يعيش غربة نفسية وفكرية. غَاب عن الأنظار مدة.
وبينما انا أمام بيتي متوجها إلى عملي صباحا، التقيته، فقد كان جارا لي، وبدا عَابِسا، يحمل حقيبته وجواز سفره.
حينها عمَّ الظلام وسَاد اللاوعي، فَحُقَت علينا الجائحة.
انتهت.
التعليقات مغلقة.