الأديب أحمد بو قراعة يكتب “العاصفة و الماشية و الصنم”
ذات يوم اعتلى رجُلٌ المِنْبرَ والنّاس جُلوسٌ حَمَدَ الله كثيرًا وصَلّى على الرّسول طويلا ثمّ قال :
أنا بيْنَ أنْيَابِ الأرض والأرض بين أنْيَابِي فتلاحم وامتزاج و غزلٌ وعَزْلٌ وتمزيق وتشريحٌ وتفتيتٌ وصراع وجهد فحياة. ولسْتُ بين أنيابِ الأصنام و لا الأصنام بين أنْيَابِي و لا ما تحت الجبّة سوى الله يَرفُلُ في حريرِ دَاخِلِي أو أرفلُ في قماشِ ذاته. أنا أمرُ الله. أنا العمل.
إذا أخرجْتُ نفسا من صدري قلتُ كريها فَلَنْ أطلبه…ما أحقر مَنْ يَلُوكُ نَفَسًا وَاحِدًا أو يطلب من غير ريح التراب ريحًا طيّبة أو رَاحًا وَرُوحًا ترويان عروق صدره…فَلاَ تُهْدُوا لأطفالِ صدوركم المتعبة أنفاسًا عجوزة ومتشابِهة فتهرم وتَبْلى وتموت، وقدِّموا لبناتِ صدوركم المريضة أنْسامًا شابة لا تتشابَهُ فتكبر وتعيش وقوّةُ وَ بَقَاء واستمرار…قدّموا ذلك لأولادكم فَسَيَحْيَوْن و سيفْعلون مَا أمر الله به.
ثمّ صاح الرّجل قوّةً وخَلَعَ جُبَّتَهُ ومَزَّقَ حريره ونزل من فوق المِنْبر يُلَوِّحُ بعصاه ويضربُ بها فضاء الجامع الجامد. و سارَ بين الصّفوف غاضِبًا يقول : قيامًا أيّها الخلق الرُّكْبَةُ القَاعدةُ. تَبًّا للجلوس والقعود والرّكوع والإنصاتِ. فتِّحوا عُيونكم و لاَ تَسيرُوا كالبهائم والأرانب أيّها النّاسُ الأرانبُ اِرْفَعوا جِبَاهكم نحو السّماء فخير العيون من عانقت الفضاء تبحث فيه عن سحابة عُقْمٍ فمدّتْ إليها الأيدي تضع مِنْها وابِلاً. الله فيكم وحولكم ولكنّكم تبحثون عنه بعيون لا ترى…في صدوركم آلهة كثيرة غير الله…و مَن فِي صدره ذلك لعنه الله…
لا تبحَثوا عن الله في السّماء فالله في كلّ قطرة تصنعونها. لا تبحثوا عن الله في جباهكم البيضاء بل إنّ الله يسكن في كلّ قطرةٍ من عَرَقٍ سَيّالٍ فوق تلك الجِباه الحمراء. الله في الصّنع. لا إله في الجماد. الله في كلّ صيحة من صيحات الولادة و ليس في التَّمتماتِ والشعوذة والسّحر. الله في كلِّ قبضة من تراب تشكّلت دَنًّا تَمْلَؤُونَهُ خمرا يُحْيِي كُلّ بصيرة عمياء جامدة لا تُحلّق و لا تُرفْرِفُ فوق عوالم البحث والكشف والخيال والانغراس في المّادة والتّحويل…الله صانع وخَلَقَكُم للصُّنْعِ والصّنع بمعرفة عبادة.
و خرج الرّجل ولَمْ نَرَه بعد ذلك يحمل معه عَصًا وَ جِرَابًا.
و كنّا نحن الأطفالَ الصّغارَ نَتْبَعه فيضحك لَنَا ومَعَنَا.
التعليقات مغلقة.