الأمثال في القرآن الكريم تأليف: د. محمود بن الشريف ط 4 …دار المعارف “سلسلة اقـرأ” عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
الأمثال في القرآن الكريم تأليف: د. محمود بن الشريف ط 4 …دار المعارف “سلسلة اقـرأ” عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
الأمثال في القرآن لون من ألوان الهداية الإلهية تغري النفوس على الخير، أو تحضها على البر، أو تمنعها من الإثم أو تدفعها إلى فضيلة، أو تدفع عنها شائبة أو تمنع نقيصة.
ومن أجل هذا تناولت الأمثال القرآنية مجالات عدة، فمثلت الإيمان، ومثلت بالكفر، وفضحت النفاق وحضت على الإنفاق، ونادت بالخير ونددت بالشر، وصورت الطيب والخبيث والصالح والطالح وغير ذلك مما أشادت به أو أشارت إليه.. كما أنها قد أبرزت المعقول في صورة مجسمة، وألبست المعنوي ثوب المحسوس، وفصلت المجمل وأوضحت المبهم؛ لتهذب بذلك الطبائع وتقلم الغرائز الشريرة، وتخفف من غلواء النفوس، وتحد من ضراوتها وتطامن من كبريائها وغرورها، ويقول إبراهيم النظام: “يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة”
وقد راع المعاندين والمكذبين هذا النمط من الأسلوب القرآني، وذلك اللون من التربية الإلهية، واستنكروا أن يضرب الله الأمثال، زاعمين أن الله أعلى من ذلك وأجل، ويرد عليهم القرآن بأن المولى سبحانه لا يرى من النقص أن يضرب مثلا بالبعوضة، أو بأصغر منها حجما، فالمثل حق يدعو إلى حق يعترف به المؤمنون فيزيدهم تمسكا بإيمانهم، وينكره المارقون الجاحدون فيزيدهم غواية على غوايتهم،{۞ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة : 26].
المنافقون:
يتغلغل القرآن الكريم في أعماق المنافقين، فيكشف عن منازعهم ونوازعهم، ويبين خوالجهم ونبضاتهم، ويميط اللثام عن أدق حالاتهم وأحوالهم، عندما يضرب، لذلك أروع التشبيهات وبالغ الصور، حيث يقول سبحانه{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)[ البقرة: 15ـ 18] هذا لون من المنافقين أتاهم الله دينا فيه هداية، وشريعة فيهاصلاح وفلاح، فآمنوا إيمانا ظاهريا، وعطلوا عقولهم، ولم ينتفعوا بماجاءهم، فابتكروا لأنفسهم منازع واتجاهات انحرفت بهم عن السنن الظاهرة، والحجج الواضحة، فعموا عن كل ذلك، وصموا، وضربوا صفحا عن هدي الله، وجعلوا بينهم وبين النور حجابا منيعا وسدا صلبا، مثل هؤلاء الصم البكم العمي في نفاقهم، كمثل الذي أوقد نارا؛ لينتفع بها في ليلة حالكة، فلما أضاءت النار ماحوله، سرعان ماأطفأها مطر شديد ذو ريح عاصف أخمد أوارها وبدد لهيبها، فتحير وتخبط في الظلمات لايدري مايتجنبه ولا مايتقيه!
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}[ البقرة: 19ـ 20]
وهذا صنف آخر من المنافقين، كان فيهم بقية من رجاء ورمق من حياة، أصاخوا بحواسهم ومشاعرهم إلى صوت الإيمان الحق، فاستجابوا له وآمنوا به، ويسيرون خطوات، ثم تتهاوى أقدامهم وتتعثر خطاهم، وتطغى عليهم تقاليد موروثة، فتحيد بهم عن الجادة، وتنحرف بهم عن الصراط المستقيم.
يمثل القرآن حال هذا الصنف الذي آمن ثم نكص، بمن نزل بهم مطر غزير فيه رعد وبرق وصواعق، وقصف الرعد ولمع البرق ودوت الصواعق، وبين دفقات الخوف ودفعات الرجاء يمشون خطوات في ضوء البرق الخاطف، ثم يذهب البرق ويذهب معه الضوء ويطبق عليهم الظلام، وتحيط بهم العتمة فيقفون في مكانهم ويقيمون على حيرتهم ومخاوفهم مجترين أوهامهم وضلالاتهم.
وأظهر هذان المثلان للمؤمنين أن المنافقين في كل عصر وآن متفاوتون، ليسوا على شاكلة واحدة في الزيغ والمروق والخروج على المحجة والتعاليم، منهم من استقى من نبع الإيمان الصافي، ثم ارتد إلى الوحل يعب من الماء الراكد الآسن، ومنهم من ظل هيمان صاديا يسدر في غوايته ويهيم في ضلاله بعد أن ازور عن المنهل العذب، وهو من جد قريب.
المقلدون: هم السلبيون مسلوبوا المشيئة والتصرف،الذين دعاهم داعي الله إلى ماأنزل الله،فكان قصاراهم أن قالوا: لنا في آبائنا قدوة وأسوة، فلن نحيد عن معتقداتهم، ولن نخرج عن سننهم!! فالتقليد تعطيل لنعمة العقل، وعقل لموهبة الإدراك!
وقد مثلهم القرآن بالسوائم والبهائم، تطيع صيحات راعيها من غير تفكير في مدلولاتها الوضعية، تسمع أصواتا منه اعتادت عليها، تدعى بصوت فتأتي وتقبل، وتصرف بآخر فتدبر وتعود وفي ذلك يقول القرآن: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة : 171]
تربية وتوجيه للمسلمين:
الشدائد محك الرجولة ومجال البطولة، والتجارب بوتقة تصهر خبث النفس، وتظهر الشخصية ناضجة مصقولة متكاملة.
من أجل هذا اتجهت بعض آيات القرآن إلى ضرب الأمثلة للمؤمنين، تخبرهم أن الابتلاء ليس بمقصور عليهم وحدهم، وأن المؤمنين السابقين أوذوا في سبيل عقيدتهم، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، ونزل بساحتهم من العناء والإيذاء والمحن والفتن والبأساء والجهد، ماكان فوق الطاقة والجهد. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت : 2-3] وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 142]
آيات وأمثال من تربية وتوجيه تشد العزم وتصقل الروح، وتقوي الإرادة، وتقوم النفس.
القدرة على البعث:
قضية البعث قضية قديمة حديثة، لها أنصارها ولها خصومها في كل وقت وحين، خصومها من هؤلاء الذين أنكروا قضية الإيمان ولم يعترفوا بالألوهية، من هؤلاء الطبيعيين والدهريين الذين قالوا: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، ومايهلكنا إلا الدهر!!
وكان من الطبيعي أن يشحذ القرآن أسلحته؛ ليحارب المنكرين في هذا الميدان، وأن يقدم الأدلة والبراهين مايجلو هذه القضية، حيث قال تعالى{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 259]، وقوله جل شأنه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة : 260]
الإنفاق:
القرآن يعلم حرص النفوس على المال وتكالبها على جمعه، وسعيها في الحصول عليه بكافة الوسائل والسبل، ويعلم أيضا شحها في الإنفاق على الغير وتقتيرها في البذل، فقدم لها علاجا نفسيا تبلور في أن النفقة في أوجه الخير والبر والصالح العام تضاعف يوم القيامة أضعافا كثيرة، فاستل بذلك من النفوس حرصها، وطمأنها عندما ضاعف لها الأجر الأخروي وأجزل لها العطاء يةم الجزاء.
وظهر ذلك جليا في:
أـ الإنفاق في سبيل الله: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 261] وقوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) ۞ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة : 262-263]
ب ـ الرياء يبطل ثواب العمل، والأذى يحبط أجر الصدقة: الرياء مرض من أمراض المجتمع يدل على انهيار في الشخصية، وجبن في الأخلاق، وبعد عن الوضوح، وفقر في الشجاعة الأدبية، وطريق ملتو يسلكه كل متلون مخادع، ليصل بوساطته إلى منفعة ذاتية أو كسب شخصي حتى ولو أهدر إنسانيته وأودى بكرامته وعزته وأنفته. يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 264]
ج ـ الإنفاق المثالي: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة : 265]
فإن أصاب المنفق خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق، وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدر، فخيره دائم وبره لا ينقطع؛ لأن الباعث عليه ذاتي، لا عرضي كأهل الرياء وأصحاب المن والإيذاء، فالوابل والطل عبارة عن سعة الرزق ومادون السعة.
د ـ عاقبة الرياء والإيذاء:
ثم تمضي الآية الشريفة بعد تبيان ذلك كله فتقول: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة : 266] فالمنفق ماله رئاء الناس أطفأ الله نوره وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه وعاد إليه أحوج ماكان إلى عمله حين لا مستعتب له ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف ـ جل ثناؤه ـ صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوج ماكان إليها فبطلت منافعها عنه.
مثل عيسى عند الله:
يسوق القرآن مثلا لهؤلاء الذين أنكروا إنسانية عيسى ورسالته، متعللين بأن خلقه لم يكن وفق السنن الطبيعية؛ فقد خلق من غير أب، ويرد الله ـ سبحانه ـ عليهم في هذا المثل بأنه لا غرابة في ذلك، فإن كان عيسى قد خلق من غير أب، فإن آدم ـ عليه السلام ـ قد خلق من غير أب:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران : 59].
إنفاق الكافرين:
قديغري الله بعض الكافرين فيمد لهم من فضله، ويفيء عليهم في الدنيا الشيء الكثير، ويدلي الكافر الثري بدلوه في مشروعات الخير والإنتاج، ويعطي من ماله ما يسميه ” قربات ” فيسد خلة فقير، أو يقيل عثرة محتاج، أو يقيم منشأة، أو يشيد مؤسسة تفيض بالرزق على سواد عظيم من خلق الله… فمثل نفقته هذه كمثل ريح فيها برد شديد أصابت زرع قوم عاصين ظالمين قد أملوا إدراكه، ورجوا نفعه، فأهلك الريح زرعهم بسبب عصيانهم وكفرهم وتجاوزهم حدود بارئهم ومخالفتهم أمره وإشراكهم به، وتكذيبهم لرسله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۚ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)} [آل عمران : 116-117]
المكذب بآيات الله:
هناك نمط من الكفر، صاحبه عالم بآيات الله، عارف مدلولاتها، قادر على تبيانها، إلا أنه انحرف فلم يعمل بمقتضى علمه، وكفر بآيات ربه عندما انسلخ منها ولم يعمل بمفهومها، وأعرض ونأى، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، يقول الله تعالى{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} [الأعراف : 175-177]
ويتحدث القرآن الكريم عنهم في موضع آخر في سورة المدثر فيقول:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر : 49-51]
ويستدل المؤلف بحديث صاحب كتاب ” من بلاغة القرآن ” قائلا: ربما بدا أنه يكفي في تصوير إعراضهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفي بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها إسراعا يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب، وتحثها عليه، يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها، فهي تتفرق في كل مكان، وتجري غير مهتدية في جريها.
الحياة الدنيا:
ضرب القرآن الكريم للدنيا أكثر من مثل، كقوله تعالى:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس : 24]
وفي سورة الكهف مثل ثان:{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف : 45]
وفي سورة الحديد مثلا للحياة أبان الدوافع التي تغري أهل الدنيا بالاطمئنان إلى حيواتهم، كما بين المثل سرعة زوال الدنيا وذهابها بعد أن شبهها بالنبات الذي ارتفع والتف وطال وتطاول حتى أعجب الزارعين والرائين، ثم سرعان ما اصفر بعد نضرة وذوّى بعد قوة، ولم يلبث أن تهشم وتحطم وتهاوى وتلاشى.{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد : 20]
بهذه الحكمة العالية أشرب القرآن نفوس أهله خصلتين ساميتين:
أولاهما: ترك الدنيا لعشاقها، وثانيتهما: أخذ ما يقيمون به أود حياتهم منها، ويحميهم من الوقوع في أسر عبادها.
المكذبون والمصدقون:
يقول الله سبحانه في سورة هود ممثلا حالتي المكذبين والمؤمنين مقررا عدم تساويهما موجبا الخسارة يوم الدين للعصاة الظالمين، والخلود في النعيم لصالح المؤمنين: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ۘ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ۚ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) ۞ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} [هود : 18-24] ثم ضرب الله مثلا للمشرك،فشبهه بالعبد يتولى أمره شركاء متشاكسون، لكل منهم رغبة تخالف رغبة الآخر، واتجاه يتعارض مع اتجاه الآخرين، فتتشتت نفسه في التوفيق بين هاتيك الرغبات المتباينة، وللمؤمن الموحد بالرجل الذي لا يلي أمره إلا شخص واحد فحسب،فلا تحير ولا اضطراب ولا بلبلة ولا قلق في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر : 29]
الجنة:
فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكي يقرب القرآن بعض متاعها لبعض النفوس التي لا تؤمن إلا بالمحسوس أبان في كثير من آياته كثيرا من تلك الأجواء الإلهية التي يعيشها أهل الجنة كقوله تعالى:{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد : 15]
{۞ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ۚ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا ۖ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد : 35]
الحق والباطل: ضرب الله سبحانه وتعالى مثل الحق في ثباته وبقائه بالماء الذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية في قدر حاجة الناس، ويمكث بعضه في الأرض لمصلحتهم، وبالمعادن التي ينتفع بها في صنع الحلي والأدوات من حيث دوامها ونفعها.
وشبه الباطل في عدم ثباته وبقائه بزبد الماء ( الريم) وزبد المعادن يهيج ثم يضمحل ويتلاشى، في قوله:{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد : 17] فقوله: أنزل من السماء ماء: أي القرآن، شبه القرآن بالماء؛ لأن فيه منفعة الدين من الأحكام والشرائع، كما أن في المطر منفعة الدنيا، ثم شبه القلوب بالأودية؛ لأنه وجد النور في القلب منفذا ومجازا، كما وجد الماء في هذه الأودية منفذا ومجازا.. ثم شبه القلوب بالسيل، وسيل الباطل بالزبد الذي يعلو فوق الماء.
عمل الكافر:
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [ابراهيم : 18]
فأعمال الكافرين، مهما جلت وكثرت، كهذا الرماد الذي انعدم وتلاشى في جوف الريح الهادرة.. وتشبيهات القرآن تستمد عناصرها من الطبيعة، أنظر في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور : 39]
تجد في السراب، وهو ظاهرة طبيعية يراها الناس جميعا، فيغرهم مرآها، ويمضون إلى السراب يظنونه ماء، فيسعون إليه، يريدون أن يطفئوا حرارة ظمئهم، ولكنهم لا يلبثون أن تملأ الخيبة قلوبهم حينما يصلون إليه بعد جهد جهيد، فلا يجدون شيئا مما كانوا يأملون.
دعاء الكافر: لا عجب إذا كان عمل الكافر ضياعا وضلالا أن يكون دعاؤه كذلك هباء وخسرانا، وقد سجل القرآن الحكيم ذلك عندما قال:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد : 14]
الخبيث والطيب:
إنها المعركة الأبدية بين الخبيث والطيب، بين الخير والشر، بين الوهم والحقيقة، هذه المعركة في قوتها وإبانها، وفي نتائجها وخواتيمها، تصورها لنا آيات من سورة إبراهيم تقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [ابراهيم : 24-27] إن الكلمة الطيبة ـ دعوة كانت أو حركة أو عملا ـ كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة، لا تزعزعها الأعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل، ولا تقوى بها معاول الطغيان، وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء، مثمرة لا ينقطع ثمرها لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن.
وإن الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة، قد تهيج وتتعالى وتتشابك ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربية قريبة؛ حتى لكأنها على وجه الأرض، وماهي إلا فترة، ثم تجتث من فوق الأرض فلا قرار لها ولا بقاء.
نقض العهد: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)} [النحل : 91-92]
إن ناقض العهد يزل في دينه عن الطاعة، كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة.
مؤمن فقير.. وكافر غني:
{۞ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)} [الكهف : 32-42]
وهذا المثل ضربه الله تعالى في وصف حال الكافر الغني، ومايجره إليه البطر من كفران حق المنعم، وحال المؤمن الذي ملأ الإيمان والثقة بالله صدره، فلا ينظر للمال والحطام إلا نظره للأمور المتنقلة والأعراض الزائلة المتحولة؛ فلو منحها شكر، ولو حرمها صبر، وهو في كل ذلك كبير الفؤاد عزيز النفس، بعيد من الدنايا وارتكاب الخطايا.
ضعف الآلهة.. وعجز الشركاء:
عن ضعف الشركاء، ومهانة الآلهة المدعاة، وعجز الأصنام، تنطق بذلك كله تلك الصورة القرآنية التي مثلت الضعف في أقوى صورة، وجسمت المهانة تجسيما صادقا واقعيا، وأبرزت عجز هؤلاء الذين ادّعى المشركون أنهم آلهة قادرون يمنحون ويمنعون: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج : 73-74]
والقرآن يعلن عن هذا الضعف في صورة مثل معروض للأسماع والأبصار، مصور في مشهد شاخص متحرك تتملاه العيون والقلوب، مشهد يرسم الضعف المزري، ويمثله أبرع تمثيل.
نور الله: {۞ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور : 35]
الله منور الوجود ومجليه، صفة نوره الذي يفيضه على قلب المؤمن، ويبعثه له في سويداء سرائره فيملؤه علما وهدى كمثل مصباح في مشكاة، وعلى المصباح قنديل من زجاج، وفيه زيت نقي يزيد ضوء المصباح نورا.
فكما ينير المصباح البيت ويملؤه نورا وظهورا، كذلك نور المؤمن يكسبه علما وهدى، ويخرجه من الظلمات إلى النور.
قوة الخلق.. وقوى الخالق:
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت : 41-43]
ويضرب الله هذا المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال، إن هنالك قوة واحدة، هي: قوة الله، وماعداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية، فهي وماتحتمي به سواء.
قرية ظالمة: رسل ترسل وتعزز إلى كفرة فجرة، ينفرون ويجادلون، ومؤمن منهم ينصح لهم، ويخلص في نصحه، ويوجههم إلى صائب العقيدة، ويستنكر عبادة ماسوى الله، ثم نهاية الإيمان، وعاقبة الإشراك، كل هذه المشاهد تجلوها لنا تلك القصة الآتية الذي ساقها ذلك المثل القرآني:
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)} [يس : 13-17]
مثل اليهود:
اليهود، كلفهم المولى العمل بالتوراة؛ لتضمنها عقيدة الله وشريعته، فلم يعملوا بها، ولم يقدروها حق قدرها، ولم ينتفعوا بما تضمنته من عقيدة وشريعة، فمثلهم كمثل الحمار يحمل فوق ظهره كتبا قيمة وأسفارا نافعة يستفيد بها الغير، وهو جاهل بما يحمل لا يستفيد منه ولا ينتفع به: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة : 5]
المسئولية الفردية:
كل فرد مسئول عن ذاتيته وعقيدته وسلوكه الفردي، وهذا المبدأ الإسلامي قد قرره القرآن بادئ ذي بدء عندما عرض لنا شرائح للإيمان الذي نبت وسط أشواك الكفر وحسك الشرك، وشرائح للكفر الذي ولد في محيط العقيدة السليمة الصحيحة.
فامرأة نوح خانت زوجها الرسول الصالح خيانة عقيدة لا خيانة فحشاء، وظاهرت أعداءه، وناصرت شانئيه، وامرأة لوط كانت تدل قوم لوط وهي تعلم صنيعهم مع هؤلاء الضيوف، لم تشفع هذه الآصرة التي تربط كل واحدة من هاتين المرأتين بزوجها، فكان مسيرها إلى النار، ومصيرهما أسوأ مصير.
وامرأة فرعون التي فرت إلى ربها، وهي تتقلب في أعطاف النعيم الحسي، تسأله أن ينجيها من فرعون وعمله.
ومريم ابنة عمران البتول الطاهرة، حافظت على إيمانها في البيئة الكافرة، فصدقت بربها وكلماته وكتبه.{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم : 10-12]
فالأمثال نموذجات الحكمة لما غاب عن الأسماع والأبصار، لتهدي النفوس بما أدركت عيانا، فمن تدبير الله لعباده أن ضرب لهم الأمثال من أنفسهم لحاجتهم إليها، ليعلوا بها فيدركوا ماغاب عن أبصارهم وأسماعهم الظاهرة، فمن عقل الأمثال سماه الله تعالى في كتابه عالما لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت : 43].
التعليقات مغلقة.