الأيتام الخمسة …كتابات نثرية. بوعون العيد الجزائر
في الحادي عشر من شهر رمضان ، وقبيل صلاة العصر كانت الوجهة إحدى المناطق الريفية صحبة دليل وأنيس المساكين ، حيث كانت الساعة تشير إلى الثالثة تماما بعد الزوال فقصدنا المكان نتجاذب أطراف الحديث كي نطوي مسافة الطريق ممعنيْن النظر في الحوالي وماهي الا لحظات حتى ولجنا ريف ( حلوفة) وعلى بضع خطوات عرجنا يسارا إلى ريف الرابعة بطريقها المتعرجة كثيرة الغبار ، وحتّى الالتواءات والانثناءات ، وفي أحد المنعرجات تراءت لنا بيوتات مترامية الأطراف في سفح جبل وليس ببعيد أوقفنا المركبة أمام بيت عتيق اصطف أمام عتبته صِبية خمسة تجلّت فيهم صور المتْربة ،يُساورها بعضا من السرور المرتسم على المُحيا تهلُّلا بقدوم زارع البسمة ، ومُكفكف دمع الفاقة ، وهي الحقيقة دون مِراء في ذلك والله على ما أقول شهيد ، حينها هتفت الطّفلة باسمه قائلة : أمّي ،أمّي ،أمّي ها قد جاء الشّيح صاحب الجمعية ، كم كان المنظر أليما تنفعل فيه النّفس ،وتتحرّك الخواطر ، وينفطر القلب ، وينحبس الدّمع في المٱقي حياء ، ثمة حيّاهم هذا الرّجل الخيّر مُداعبا إيّاهم بكليمات اعتادوا سماعها منه ، ثم أردف قائلا : هذا المبلغ المرسل من صاحب الخير المتصدق اعطيه لأمّك ، ثم قدم الولد البِكر في عمر الخامسة عشر وأمرنا بالدخول لمعاينة البيت ،أو قل ما تبقى من ٱثاره بعد رحيل صاحبه إلى الرّفيق الأعلى ، وبدخولنا خطرت ببالي خواطر عدّة تجمّعت كلماتها واستقيتها من حوش الدّار وجدرانها وموضع المدخنة ( شميني ) ،لكأن أثواب الفقر بُليت ، وانسدلت على أركانه مُتهدِّلة يمشي بعضها في بعض تُلفق بخيوط الدّمع ، ويمسكها برُقع من الأكباد ، ويشُدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى ألم . وأنا أتفرس المكان بعين قلبي وما ضج فيه وعج في الصّدر حتّى تماثلت أمامنا إمرأة تحمل من الأرزاء والهموم ما يترجمه الحال قبل النطق بالمقال ، كانت هادئة رصينة رزينة عفيفة تمشي على استحياء صابرة مصطبرة تنظر الحياة وما تبقى من عقد أيّام العمر في أولادها ترقبهم بقلب متفئّد ، ونفس مكلومة ووجه شاحب ممتقع ، وعينين تخبئان عاصفة نائمة ، وبنظرة تستجلي معنى الغرابة ، والغربة في هذا المكان بعدما عزفت الحياة ونسمتها بعدما أخذت أنّة النزع نصفها ومسكنها الذي كانت تُنفس عنده صُعداء متاعب اليوم ، وهي حزينة كئيبة تُضارع الطبيعة وهي مجرودة غبراء لازرع ولاضرع لا تُخصب ولا تُنبت ، كأنّ روحها كتب عليها الحبس في جسدها ،وفي رَدْهة الدّار قصة يرويها السّقف المتٱكل وبعض الرّماد الخامد من الكانون خمود أرواحهم الطاهرة ، وفي بقايا فراش امتزج بالتراب فصار سيّان ، وأسمال بالية عُلّقت على حبل يربط الماضي بالحاضر ، وقدر تُطبخ فيه وجبة الإفطار بكدر الأنات وتصعيد الزفرات ، حينها لملمت جراح نفسي وغادرناهم على أمل العودة . وفي باحة الحوش وقفوا ينظروننا مطرقين حيث تمسكت البنت برجل أخيها معبرة هذا هو السند والمعين ورجل الدّار ،وكبيرنا ، وسنكبر صحبته بمرافقة الصدر الحنون أمّي ، وسننتشلها من قواطع الإدقاع ، وذلّ المسغبة ، ولوعة فراق أسد عرينها ، وسنحكي ذات يوم إن كان في العمر بقية قصّتنا بعد بزوغ فجر السعادة من رحم الٱلام ، وستكون هذه البطاح والأودية ووهادها ونجادها شاهدا ودليلا على أننا عبرنا من هنا .
في ٱلام الإنسانية تلتقي عندها أنّة المريض ،ووجع اليتيم ، ودمعة الجائع ، وصرخة المستغيث ، وبكاء الأرامل ، وصمت المحتاجين .
أيها الميسورون حالا من أهل وجيران وعامة حدثوا أنفسكم عن هؤلاء وأولئك ففي أناتهم وٱلامهم ، وفاقتهم ، وقلّة حيلتهم ، ودعائهم سهام طائشة تصيب من عَلم وغفل وتغافل في مقتل ، ولعلّه سُوء المنقلب ، زيحوا الغشاوة عن أبصاركم ، وزيلوا الوقر من ٱذانكم ، ونظفوا قلوبكم من صدأ حبّ المال حبّا جمّا فلا المال ،ولا الأبناء ولا الجاه ولا المنصب سيحاجون عنكم يوم لا ينفع مال ولا بنون الاّ من أتى الله بقلب سليم ، والعاقبة لمن اتقــى .
التعليقات مغلقة.