الإمام محمد عبده
وأثره في تجديد الفقه والفكر الإسلامي
تأليف : أ. د. كمال الدين المرسي.
عرض وتحليل: حاتم السيد مصيلحي
يعد الإمام محمد عبده نجما من النجوم السيارة حول شمس الإسلام الكبرى_ المتمثلة في سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم _ الذي أضاء فترة من فترات التاريخ المعتمة، فأزاح أستار الجهل المضنية.. وصمد أمام سهام الغرب المجحفة، مكونا مدرسة التجديد ذات الرأي السديد في أحكام الدنيا والدين، فبات مداد كلمات العلماء، وشريان تواصلهم، ومحور بحثهم واهتمامه.. والكتاب الذي بين أيدينا تضمن أمورا ظاهرية تختبئ تحت عباءتها أمور باطنية أشار إليها المؤلف بطرف خفي.
ففي الفصل الأول : تحدث عن محمد عبده (حياته وآثاره العلمية) والذي يبدو لأول وهلة إعادة لما كتبه السابقون، وترتيب لماسطره الباحثون، وهذا هو الظاهر، ولكن الباطن المختبئ تحت عباءته هو أنه يلفت نظر أولي الألباب إلى عدة قضايا بطلها الإمام محمد عبده، منها:
الكتاتيب : بصفتها المنطلق الذي ينطلق منه العلماء إلى آفاق العلم الرحبة بمختلف فروعه المعرفية، فكانت أولى سلالم العلم حفظ القرآن، وبانقراض الكتاتيب، عم الجهل وانتشرت الأمية، وتعلق الشباب بأذيال التقدم الزائف، وبكل مستورد دون النظر إلى الأصل والفرع، فالعودة إلى نظام الكتاتيب في القرى أعظم عمل لمحو الأمية التي ننادي بها، وليس تأخرا ورجعية كما يزعم البعض، بل الرجعية في محوها.
ثم ينعطف بنا إلى قضية من أهم القضايا التي يعاني منها كل بيت، وهي قضية (التعليم) وإعداد المعلم إعدادا سليما مبني على أسس وقواعد مدروسة؛ لأن بيده تكون نجاح العملية التعليمية أو فسادها، ودلل المؤلف على ذلك بقول الإمام محمد عبده :
“وفي سنة ١٢٨١ من الهجرة جلست في دروس العلم، وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الأجرومية في المسجد الأحمدي بطنطا، وقضيت عاما ونصفا لا أفهم شيئا؛ لردائة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لا يعرفها، فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدروس “
وهذا بالضبط مانعانيه الآن في التعليم وازدياد عدد المتسربين؛ لرداءة المناهج وافتقارها إلى عناصر الابتكار، وعوامل اكتشاف المواهب، وعدم قدرة بعض الطلاب على الاستيعاب، و اللجوء إلى خطط علاج واهية وغير فاعلة أو مفعلة؛ لأنهم لم يجدوا ما يحذبهم أو يشجعهم على الفهم والتذوق لما يدرسون، فما إن وجد المعلم القدوة القادر على شرح ما استغلق على تلامذته تغير الأمر وتبدل، وكان ماحدث للإمام محمد عبده على يد خاله الشيخ درويش ” الذي استطاع بنفاذ بصره، وفيض علمه أن يشرح لتلميذه محمد عبده ماكان قد استغلق عليه فهمه في الجامع الأحمدي، وحبب إليه العلم، فقرر العودة إلى الأزهر..”
إن الوظيفة الأولى للمربي إنما هي العمل على تفتيح ذهن الحدث أو الشاب للقيم الخلقية “ثم إن بيده ميزان يزن به ذهنه ودرجة استعداده لقبول مايقول، فيجب على المعلم أن ينزل مع المبتدئ إلى درجته، ثم يرتقي به شيئا فشيئا حتى يصل إلى الدرجة التي يتمكن فيها إلى إدراك دقيق المعاني”
ثم تكلم المؤلف عن دور السياسة في حياة الإمام محمد عبده، فقد كان مهموما بأمور وطنه مشاركا في أحداثه محاولا الإصلاح مااستطاع مستلهما مبادئه السياسية من أستاذه جمال الدين الأفغاني، ولكن بطريقته الخاصة، فرأى أن الإصلاح لا يأتي إلا من القاع، فإن انصلح حال الرعية، انصلح حال ولاة الأمر، وقد تعرض بسبب السياسة للنفي أكثر من مرة حتى أنه قال في كتابه الإسلام والنصرانية :” إن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو العلم أو الدين فأنا معك من الشاهدين، أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة.. ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس” ولكن ذلك لم يمنعه من مراقبة الحكومة، فلم تغفل عينه قط عن متابعة القرارات والقوانين والوقوف ضد أي قرار يمس مصلحة الشعب، حيث كان عضوا فاعلا وفعالا في مجلس شورى القوانين، فكان مثالا حيا للعضو، حيث قال عنه زملاؤه :” كان واسع الاطلاع نير البصيرة في كل ضرب من ضروب الإصلاح”.
كما يلفت المؤلف أنظارنا إلى مايجب أن يكون عليه الداعية، لكونه مصلحا اجتماعيا يساهم مساهمة فعالة في حل مشكلات مجتمعه، حيث انتخب الإمام رئيسا للجمعية الخيرية الإسلامية، فتوجه إلى إصلاح التعليم، كالعمل على العناية بالتربية الدينية، و مقاومة مدارس التبشير التي نشرها المبشرون، والعناية باللغة العربية وتصحيح عيوب التعليم الذي فرضه الإنجليز في مدارس الحكومة.
وخرج بنا بخلاصة المبادئ والوصايا المستنبطة من حياة الشيخ محمد عبده بعدة نقاط أهمها:
- إن الحفاظ على الوحدة الوطنية تكليف تأمر به الشريعة. ثم ينطلق المؤلف إلى الفصل الثاني جاعلا قضية ( التنوير) هي نقطة الارتكاز الأساسية، وقد يظن البعض أن الحملة الفرنسية ١٧٩٨م هي مبعث النور الذي انقطع عن عقول المصريين طوال عدة عقود، وهذا ظن خاطئ؛ لأن تيار العلم قد دب في عروق المصريين، وتشكلت جذور النهضة الحديثة داخليا في إطار ثقافتنا العامة السائدة آنذاك، ولم تحدث الحملة الفرنسية سوى أنها أثارت فيهم مكامن الدهشة التي هي أولى درجات الوعي – على حد قول أساتذتنا- كما أن ثلاث سنوات (عمر الحملة) لا تعد شيئا في عمر الأمم لكي تتحول من الخمول والتأخر إلى الرقي والتطور.
وقد تبنى الإمام محمد عبده قضية التنوير الفقهي باحثا عن فقه جديد يناسب احتياجات الناس في عصره، بينما عكف علماء الأزهر على دراسة الفقه القديم المبني على فقه المذاهب الأربعة لا يحيدون عنه إلى غيره، وهذا التجديد الذي حمل لواءه محمد عبده لا يفهم منه أنه رفض التراث جملة وتفصيلا، ولكنه دعا إلى إعادة بناء التراث بحيث يكون متفقا مع روح العصر الذي يعيش فيه الفقيه، وملائما لما يستقبل من الزمان، كما دعا إلى النهوض بعلوم الوسائل، معلوم اللغة والبلاغة، والتاريخ، والجغرافيا، والحساب، والهندسة، والفلسفة والمنطق؛ لأنها تعين على فهم هذا الفقه واستيعاب مسائله.
فدعوته إذن دعوة تنويرية تجديدية ترمي إلى فهم التراث فهما جيدا، بل وتضيف إليه ماليس فيه بحيث يساير أفهام الناس، ومن ثم كانت خطته في تطوير الأزهر.
وفي الفصل الثالث حصر لنا المؤلف خطة الإمام محمد عبده ومنهجه التنويري في أمرين :
الأول : الدعوة إلى تحرير الفكر من قيد التقليد والجمود وذلك عن طريق :
١- كسر حاجز الجمود الفكري.
٢- تنمية اللغة العربية للرقي بأذهان الناس.
٣- تفهيم القرآن وتوطئة وتقديم الفقه الإسلامي للناس عن طريق التفسير.
والآخر : التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة.
وكان يرى أن هذا هو المنهج السديد؛ لتحقيق التوازن بين الحكام والمحكومين منعا للطغيان، ودرءا للفتن،؛ لأن حركات الإصلاح تحتاج إلى الأمان.
التعليقات مغلقة.