“الإيقاع وفنيات الإبداع في لوعة الغربة وصراع الاغتراب “دراسة نقدية تحليلية لقصيدة ” محض كذبة”للشاعرةالتونسية Taghrid BouMerhi …نقد وتحليل أسامـة نور
“الإيقاع وفنيات الإبداع في لوعة الغربة وصراع الاغتراب “دراسة نقدية تحليلية لقصيدة ” محض كذبة”للشاعرةالتونسية Taghrid BouMerhi …نقد وتحليل أسامـة نور
النص:-“مـحـض كـذبـة”!
بينما تُشعلُ خطواتك في الغياب ، خذْ وقتكَ
فالدموعُ عينان نضّاحتان تخلعان أصابع الوقت
من زفير الشوق!
يا لهُ مِن تعبيرٍ فادحٍ في الصّواب والإعجاب،
(إنّ بعضَ الظّل …حبر)
كم مِن الأعذارِ يلزمكَ كي لا تسرف في حمأ أهراماتِك..
والغبار نصفُ ذاكرة تيبّست في لفافةٍ رماديّة الأنفاس
فكيف عسايَ أتدفّقُ كرهًا
وأنتَ المسكونُ بحَيرة الإنتظار ،
تخصفك التّكوّرات كلّما افتعلتَ اللهفة
وهرولتَ بعيدًا حاملًا وصاياكَ العشر…
وعلى الضّفّةِ المقابلة للصّمت ،
تشعّبت رئة البكاء ،
وما عادت أعذارك الواهية تخبركَ ما الحقيقة..!؟
وكعلامةِ استفهامٍ كبيرةٍ ،
لا تدري أينَ وضعتْ حقيبة عواطفها السّاذجة،
تكاثرَت الذّكريات على مزلاجِ النّافذة المقابلة لبئرِ الغياب
تشدّ على يدِها بجوارِ ذٰلك الغريب!
جلّ ما في الأمرِ
أنّ الوقتَ لم يكن يصلحُ للانسحاب
وإلى الآن..! كلّما باغتتها الذكريات ،
أذابها حرّ الإستيقاظ ودفعها إلى الهاوية !
وكرغبةٍ أخيرةٍ ممتلئة بنظرةٍ داكنة ،
كانت أصغر هفواتي أنّي أعاند كأحجارِ غرانيت محض كذبة !!!
النقد والتحليل
مقدمة:-
مهما اختلف النقاد حول قبول شكل شعري، أو رفضه يبقى الحُكْم إلى الإبداع ،ومدى الشاعرية في النص الشعري من قصدية وآليات وفنيات.، تجعلنا نشعر بالنص ونتماس معه ونعجب به “الإبداع في المضمون “
وفي رأيي أن الانحياز لشكل شعري ورفض ما سواه
هو نوع من العبث والجهل بالمفهوم الواسع للإبداع …
لأن الإبداع يحدده مقومات ،وآليات تهتم بالقدرة على التعبير
وإيصال الفكرة بشاعرية وجمال ؛لتسعد بها النفس ، وتتماس معها ،ومع القدرة على التصوير والتجديد فيه …
لهذا فإن النص العمودي الموزون والمقفى له جلاله وهيبته منذ القدم ، لكن الوزن وحده لا يكفي ؛لنحكم على قصيدة عمودية موزونة ومقفاة أنها إبداع ..دون النظر للمضمون والتجديد فيه ..
كما أن شعر التفعيلة له آليات لا يمكن أن نتركها ونركز على الوزن فقط..
وكذلك شعر النثر أو النثر الشاعري …له آليات وضوابط أهمها توفر الإبداع والتجديد في الصورة والعمق الفكري والشعوري
والإيجاز ، ورسم الصور الكلية ..والغوص داخل الذات والتعبير عنها.. ومحاكاتها بالطبيعة ..والاعتماد على الإيقاع والموسيقى الداخلية ، وقوة الجملة والدهشة .والتعبير عن الحداثة وما بعدها ..
——-؛؛؛؛؛؛؛؛———-
**”في ماهية العنوان “
للعنوان أثر كبير في جذب المتلقي لقراءة النص ، وله دور كبير في فهم النص ومحاولة تأويلة ،وفك شفراته ، واستكناه مضمونه .
لهذا أفرد النقاد للعنوان مباحث عدة ، وجعلوه مدخلًا رئيسًا للنص ، بل اعتبروه نصًا مصغرًا؛ يعبر عن النص الأصلي
ويعد الناقد الفرنسي “جيرار جينت ” في مقدمة النقاد الذين اهتموا بعتبات النص ومنها العنوان ” وجاء ذلك في كتابه
“عتبات النص “
وأصبح العنوان جزءًا من النص ، معبرًا عن كليته ، وأصبح
الكتَّاب المعاصرون يعطون للعنوان أهمية ، وعناية في الاختيار .
العنوان هنا محض كذبة يتكون من كلمتين محض خبر لمبتدأ محذوف ..وكذبة مضاف إليه مجرور . فأي كذبة تعاني منها؟! الشاعرة ،وما أثرها عليها ؟
..عنوان يوحي بالصدمة والألم والصراع الداخلي بين الحلم والحقيقة بين الواقع والمأمول . فالغربة عن الوطن والبعد عن الحبيب من أصعب ما يواجهه الإنسان ، والأصعب أن يجتمع معهما الاغتراب ..فيعيش المرء رهن الذكريات ..
عنوان مشوق له تأثير نفسي على المتلقي ؛ يدفعه لاستكشاف النص ..
———–؛؛؛؛؛؛؛———–
**” من حيث الشكل والإيقاع “
القصيدة من حيث الشكل تنتمي لشعر النثر أو النثر الشاعري ؛ فهي لا تلتزم بوزن ولا قافية ؛لهذا فهي تتخذ الصورة الطريفة ،و والتأثير الذهني الوجداني
والحركة والتصاعد الدرامي ، وفلسفة الذات والأشياء ، والعلاقات المتداخلة غير المباشرة ، والجمل القصيرة المتناسقة ..وسيلة لشاعرية النص ،
كما إنها تعتمد على الإيقاع ؛لإحداث موسيقى داخليه رنانة تستعيض بها عن الموسيقى الخارجية المتمثلة في الوزن والقافية .
والإيقاع : هوتكرار الأصوات بتتابع زمني ، وبوحدة منتظمة
واستخدام الجمل المتناسقة ، والاعتماد على التقابل ،والتصاد
والجناس ،والترادف ، والصور الوجدانية العميقة التي تنبعث من العمق الشعوري الداخلي، والذات المشتعلة ؛ لتتوزع على الطبيعة الخارجية .
فتكون عالمًا أسطوريًا يتخذ من الحركة ، والدراما المتصاعدة الهيكل البنيوي للنص .
ونلحظ ذلك في بداية النص حيث تقول الشاعرة :-
بينما تُشعلُ خطواتك في الغياب ، خذْ وقتكَ
فالدموعُ عينان نضّاحتان تخلعان أصابع الوقت
من زفير الشوق!
يا لهُ مِن تعبيرٍ فادحٍ في الصّواب والإعجاب،
(إنّ بعضَ الظّل …حبر)
صورة كلية ..تنبعث من الذات ، ومن العمق الفلسفي ، لتشكل
خبرة حياتية ، وإلمام بالتفاصيل والعلاقات المتشابكة
و نجد هنا الإيقاع الوسطي المتوازن في بداية النص ،ثم التصاعد الإيقاعي في السطر الثاني
ثم الإيقاع المتهادي الذي يحمل الإقرار ..والألم والشجن
حين تقول :-
يا لهُ مِن تعبيرٍ فادحٍ في الصّواب والإعجاب،
(إنّ بعضَ الظّل …حبر)
فالإيقاع يعلو ويهبط تبعًا للمخرجات النفسية الذاتية ، والإحساس والشعور ..
ثم نجد السلاسة الإيقاعية ،واستخدام الجمل المتناسقة المتناغمة ،التي تشكل مع الصور الكلية ، وتوليدها ، حالة من مكاشفة الذات والآخر ، تخرج من العمق الشعوري ،
ونلحظ ذلك في :-
“كم مِن الأعذارِ يلزمكَ كي لا تسرف في حمأ أهراماتِك..والغبار نصفُ ذاكرة تيبّست في لفافةٍ رماديّة الأنفاس .
فكيف عسايَ أتدفّقُ كرهًا
وأنتَ المسكونُ بحَيرة الإنتظار ، تخصفك التّكوّرات كلّما افتعلتَ اللهفة وهرولتَ بعيدًا حاملًا وصاياكَ العشر..”
فالموسيقى الداخلية والإيقاع يلائمان الحالة ويتجاوبان معها .يمتزجان بالصورة..والعاطفة ..والبعد الفلسفي التحليلي
ليتكون من ذلك كله موسيقى شجية ،وإيقاع حالم تحمله جمل متجانسه تخاطب النفس والآخر ؛لتحدد العلاقة بينهما
وهذا الحب الذي منحته للآخر ، فتكابد الذكريات ،آلام الانتظار ، وتعزف على آلام الغربة المكانية والاغتراب النفسي
اعترافها بأن ذلك محض كذبة .
** كان لاستخدام ضمير المخاطب ( كاف الخاطب ،)
في بداية النص
“بينما تُشعلُ خطواتك في الغياب ، خذْ وقتكَ”
ثم الالتفات في نهاية النص واستخدام ضمير الغائبة المؤنث
أثر في التشكيل الموسيقى في النص فهي تخاطب نفسها
من خلال الغائب ، مما يعمق الشعور بالغربة ، والاغتراب النفسي وكأنها غائبة عن الواقع ، وتستدعي نفسها للرجوع مرة أخرى ..
فتقول :-
“وكعلامةِ استفهامٍ كبيرةٍ ، لا تدري أينَ وضعتْ حقيبة عواطفها السّاذجة،
تكاثرَت الذّكريات على مزلاجِ النّافذة المقابلة لبئرِ الغياب تشدّ على يدِها بجوارِ ذٰلك الغريب!”
————–؛؛؛؛؛؛؛؛————-
**”من حيث اللغة ،والمضمون ،والتجربة الشعرية”
اعتمدت الشاعرة على اللغة الحية الحالمة الشاعرية السلسة ،والجمل القصيرة المتشابكة ،النابعة من الذات ، فهي لغة خاصة ،بعيدة عن القوالب الجاهزة فهي ترتكز على والإيحاء ،وتعدد الدلالات ، والبناء اللغوي الشفاف .
تميل إلى إظهار الأشياء ، و إستجلاء المهمل ،
فجاءت اللغة معبرة تشع بذاتية الشاعرة ،وحراكها الداخلي
؛لتعبر عن تجربة ذاتية حالمة ، تستحضر الآخر من خلال الخطاب ،وتستحضر الذات الغائبة التي تعاني الغربة والاغتراب ، وهجر الحبيب ، وأكاذيب الغرام ،إنها تعبر عن الأجيج الداخلي ، والحوار الذاتي ، وموقفها من الآخر ، في لوحة فنية رائعة تشع بالحركة والتناغم الصوتي ، والصور
العميقة المرئية التي تعكس الحالة والرؤية ..
فتبدأ النص بمخاطبة الآخر الذي يشكل جل الصراع وأسباب العذاب …فذلك الحبيب الذي تمادى في الغياب ، ليتركها للدموع ، والزفير والانتظار ، فأصبحت ظلاً ، تصوغ آلامها من خلال حبر الكتابة ،
فتقول :-
بينما تُشعلُ خطواتك في الغياب ، خذْ وقتكَا
فالدموعُ عينان نضّاحتان تخلعان أصابع الوقت
من زفير الشوق!
يا لهُ مِن تعبيرٍ فادحٍ في الصّواب والإعجاب،
(إنّ بعضَ الظّل …حبر)
ثم يأتي التساؤل الذي يعكس الحيرة والقلق ، مستخدمة الصورة المركبة والتكثيف ، تعيب نسيانه ، وكأنه لايتذكرها إلا مقدار ما يشغل سيجارته رمادية الأنفاس ..
فتقول :-
كم مِن الأعذارِ يلزمكَ كي لا تسرف في حمأ إهراماتِك..والغبار نصفُ ذاكرة تيبّست في لفافةٍ رماديّة الأنفاس
فكيف عسايَ أتدفّقُ كرهًا
وأنتَ المسكونُ بحَيرة الإنتظار ، تخصفك التّكوّرات كلّما
وعلى الضّفّةِ المقابلة للصّمت ،
تشعّبت رئة البكاء ،
وما عادت أعذارك الواهية تخبركَ ما الحقيقة..!؟ “
تستجمع قواها تخاطب نفسها الغائبة في مدارك القلق والصراع والانتظار ..وتتسائل عن كنه هذا الحب ، وهل
هي ساذجة في عاطفتها ، إن الذكريات تكاثرت ، حين تنتظر جوار النافذة عودة الغائب ..
فتقول :-
“وكعلامةِ استفهامٍ كبيرةٍ ،
لا تدري أينَ وضعتْ حقيبة عواطفها السّاذجة،
تكاثرَت الذّكريات على مزلاجِ النّافذة المقابلة لبئرِ الغياب
تشدّ على يدِها بجوارِ ذٰلك الغريب!
نهاية رائعة فرغم أنها تقاسي وتتألم لكنها لا تستطيع الانسحاب ..فهي تعاند النسيان مثل أححار الجرانيت
رغم أنها تعلم أن عودته محض كذبة ..
فتقول :-
جلّ ما في الأمرِ
أنّ الوقتَ لم يكن يصلحُ للإنسحاب
وإلى الآن..! كلّما باغتتها الذكريات ، أذابها حرّ الإستيقاظ ودفعها إلى الهاوية !
وكرغبةٍ أخيرةٍ ممتلئة بنظرةٍ داكنة ، كانت أصغر هفواتي أنّي أعاند كأحجارِ غرانيتٍ محضُ كذبة .
———–؛؛؛؛؛؛؛؛———–
***من حيث “الأساليب والصور وفنيات الإبداع “
استطاعت الشاعرة التعبير عن حالتها ورؤيتها بعمق ،وإيحاز وتكثيف ..مزجت بين البعد العاطفي والبعد الفلسفي الفكري
مما جعل المتلقي يتماس مع النص وجدانيًا وذهنيًا ، يتعايش مع النص ويتأثر به ..
والنص عميق مفعم بالإشارة والتلميح ،والإبداع في رأيي
تلميح لا تصريح “
استخدمت الشاعرة الأسلوب الخبري للتأكيد والتقرير مثل
“بينما تُشعلُ خطواتك في الغياب ، خذْ وقتكَ”
/فالدموعُ عينان نضّاحتان تخلعان أصابع الوقت
من زفير الشوق!/وأنتَ المسكونُ بحَيرة الإنتظار ، تخصفك التّكوّرات كلّما/إنّ بعضَ الظّل …حبر)/أنّ الوقتَ لم يكن يصلحُ للإنسحاب/
واستخدمت الأسلوب الإنشائي؛ لإثارة الذهن وجذب المتلقي
وإظهار الحيرة والصراع الداخلي
فنجد الاستفهام الذي يجمع بين الاستفهام اللفظي للتهكم …والخبري التقريري مثل :-
“كم مِن الأعذارِ يلزمكَ كي لا تسرف في حمأ إهراماتِك..”
ومثل :
“وما عادت أعذارك الواهية تخبركَ ما الحقيقة..!؟ “
ومثل :-وكعلامةِ استفهامٍ كبيرةٍ ، لا تدري أينَ وضعتْ حقيبة عواطفها السّاذجة،
———–؛؛؛؛؛؛———–
تبقى الصورة من أهم فنيات الشعر ، فهي التي تحمل الجمال ،وتسبح بنا في عالم الخيال ، وتجعلنا ندخل النص ونتماس معه …
وفي نص “محض كذبة “نجد للصور سحرها ، تشكل الحالة النفسية وتنقلها من البعد السمعي للبعد المرئي الحركي
فالصورة تتولد حسب الحالة النفسية تتصاعد لتعكس الصراع
فالنص مفعم بالصور الطريفة الكلية ..
ونجد ذلك في :-
“بينما تُشعلُ خطواتك في الغياب ، خذْ وقتكَ”/فالدموعُ عينان نضّاحتان تخلعان أصابع الوقت
من زفير الشوق!/(إنّ بعضَ الظّل …حبر)/
وعلى الضّفّةِ المقابلة للصّمت ، تشعّبت رئة البكاء ، وما عادت أعذارك الواهية تخبركَ ما الحقيقة..!؟
وأنتَ المسكونُ بحَيرة الإنتظار ،
تخصفك التّكوّرات كلّما افتعلتَ اللهفة
وهرولتَ بعيدًا حاملًا وصاياكَ العشرة.
نلحظ استخدام رمزية التكورات ،والوصايا العشر
ونجد الصورة المرئية في
“تكاثرَت الذّكريات على مزلاجِ النّافذة المقابلة لبئرِ الغياب تشدّ على يدِها بجوارِ ذٰلك الغريب!”
ويستمر حضور الصورة برقتها وجمالها حتى نهاية النص
في قولها :-
وكرغبةٍ أخيرةٍ ممتلئة بنظرةٍ داكنة ، كانت أصغر هفواتي أنّي أعاند كأحجارِ غرانيتٍ محضُ كذبة !!!
———؛؛؛؛؛؛؛؛؛———-
قصيدة نثرية رائعة ، اتسمت بالشاعرية والصدق الفني .وعمق الدلالة والإيحاء والإيجاز ، ودقة التصوير وسعة الخيال، والتماسك البنيوي .
وطرافته، تشع بالحركة والتناغم الإيقاعي .يتماس معها المتلقي ويتاثر بها.
تتوافر فيها آليات شعرالنثر ، وتعبر عن الحداثة ،وما بعدها.
قصيدة معبرة رائعة حققت الإبداع والإمتاع .
تحياتي/ أسامــة نــور
التعليقات مغلقة.