الابتلاء بالمرض
بقلم/ محمـــد الدكـــرورى
المقادير كائنة لا محالة، وما لا يكون فلا حيلة للخلق في تكوينه، وإذا ما قدر على المرء حال شدة، وتكنّظته الأمور، فيجب عليه حينئذ أن يتزر بإزار له طرفان: أحدهما الصبر، والآخر الرضا، ليستوفي كامل الأجر لفعله ذلك، فكم من شدة قد صعبت، وتعذر زوالها على العالم بأسره، ثم فرج عنها بالسهل في أقل من لحظة.
وما يصيب الإنسان، إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ من جهة أنه يكفر خطاياه ويثاب عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) .
والابتلاءاتُ سنةٌ ربَّانيَّة فيها، للامتحان في الشهوات والفقر والمرض والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) والمرضُ ابتلاءٌ فيه حكمةٌ بالغة لو تأمّلها المريضُ لأدركَ أنه منحة من الله ساقه إليه، ليصبر وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم “عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له” رواه مسلم .
وصبرُ المريض على المصائب تحقيقٌ لعبودية الله وقد قال الله عز وجل (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) والمرضُ تكفيرٌ للخطايا والسيئات أو يكون عقوبة على ذنب وقع من العبد حيث يقول الله عز وجل (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر” رواه الطبراني.
وإن البشر قاطبة مجمعون إجماعا لا خداج فيه، على أن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى، وأن الصحة والعافية، نعمة مغبون فيهما كثير من الناس ، والأمراض والأسقام ، أدواء منتشرة انتشار النار في يابس الحطب، لا ينفك منها عصر، ولا يستقل عنها مصر، ولا سلم منها بشر ولا يكاد إلا من رحم الله .
والابتلاء بالمرض هو في الدنيا خير من عقوبة الآخرة ليُكفّر عنه ذنوبه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم “إذا أراد الله بعبد الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوافَى به يوم القيامة” رواه الترمذي.
وقال ايضا صلى الله عليه وسلم “ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حطَّ الله بها سيئاتِه كما تَحطُّ الشجرةُ ورقَها” رواه البخاري.
وقال ايضا عليه الصلاة والسلام-: “ما يزالُ البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة” رواه مسلم.
وقد يحظى العبدُ بمنزلة عظمى عند الله بلا عمل يُبلِّغُه إلا بابتلائه بالمصائب ،والأجرُ بالمُصاب مرتبطٌ بالصبر ، كما في الحديث القدسي: “ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه (أى ولده) من أهل الدنيا ثم احتسبه (أي صبر) إلا الجنة” رواه البخاري.
والمرضُ يردُّ الإنسان ويذكِّره بعد الغفلة، ويكفّه عن العصيان؛ فالصحةُ والملذاتُ قد تُطغي العبدَ وتغرُّه فينهمكُ في الغفلة، فإذا ابتلاه الله بمرض استشعر ضعفَه وذُلّه وفقره إلى خالقه ومولاه وتذكّر تقصيره في حقّه، فعاد إليه نادماً ذليلاً متضرعاً..
وعاد سلمان رضي الله عنه مريضاً فقال له: “أبشر فإن مرضَ المؤمن يجعله الله له كفارة، وإن مرض الفاجر كالبعير عقلَه أهلُه ثم أرسلوه، فلا يدري لم عُقل ولم أُرسل“، وذلك أن الفاجر لا يؤثر به المرض.
وكلما كان العبدُ أتقى لله كلما كان البلاء عليه أشد فيقول صلى الله عليه وسلم “إن عظمَ الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط” رواه الترمذي.
والأنبياء والصالحون أحبُّ الخلق إلى الله عز وجل فكان بلاؤهم أشدّ قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله أيُّ الناس أشد بلاءً، قال: “الأنبياءُ ثم الأقلُّ فالأقل، فيُبتلى الرجلُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابةً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةً ابتُلي على حسب دينه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة” رواه الترمذي.
وإن الابتلاء بالأمراض والأسقام، قد يكون هبة من الله ورحمة، ليكفر بها الخطايا ويرفع بها الدرجات، فلقد استأذنت الحمى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “من هذه؟” قالت: أم مِلْدَم وهي كنية الحمى فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا منها ما يعلم الله، فأتوه فشكوا ذلك إليه فقال: ” ما شئتم؟ إن شئتم أن ادعوا الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكون لكم طهورا” قالوا: يا رسول الله، أو تفعل؟ قال: ” نعم” قالوا: فدعها ” رواه أحمد .
اشتكى عروة بن الزبير الآكلة في رجله، فقطعوها من ركبته، وهو صامت لم يئن، وفي ليلته تلك سقط ولد له من سطح فمات، فقال عروة: اللهم لك الحمد، كانوا سبعة من الولد فأخذت واحدا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فإن كنت أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت لقد عافيت.
فرحم الله عروة وغفر له، فلقد كان بعض المرض عنده أخف من بعض، وبلاؤه أهون من بلاء غيره، فهان عليه مرضه، وهانت عليه بلواه.
فيا أيها المريض عليك بالصبر، فهو نصف الإيمان، فنصفُه صبرٌ، ونصفه شكرٌ، والصبرُ بثلاث أمور: حبس النفسِ عن الجزع والتسخط، وحبسُ اللسان عن الشكوى للخلق، وحبسُ الجوارح عن فعلِ ما يُنافي الصبر من لطمِ الخدود وشقِّ الجيوب.
واعلموا أنّ الدواءَ مجرّدُ سببٌ للشفاء، والشافي حقيقة هو الله، فلا تتداووا بمحرم، ولا تتمنّوا الموت، ولا تستعجلوا الإجابة، وألحّواَ على ربِّكم بكثرة الدعاء والاستغفار وداووا مرضاكم بالصدقة، واعلموا بأن الله لا يخيب رجاء من دعاه مخلصاً صادقاً، فإن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين .
التعليقات مغلقة.