(البحر ) للكاتب / عبدالله عبدالإله باسلامه
يونيو / ٢٠٢١م .
كائن عظيم، وأعظم مافيه صبره، وواقعيته ..
ومن يقول عنه أنه مخيف، وماكر، وقاتل، وغدار … فقد افترى عليه، وأخطأ في حقه ، وهو لا يحب أن يقال عنه ذلك لأنها ليست من صفاته ..
فهو على سبيل المثال لا يحب أن يسبح داخله ضمآن لا يجد ما يرويه و يسد رمقه غير غمس جسده في مياهه المالحة فيزداد على الضما ضمأ !
كما أن البحر لا يحب أن يتأمله خائف أو جائع لأنه يعلم أن منظر غروب الشمس الرائع على أحد شاطئيه لا يمكن أن يغني الجائع من جوعه، أو يعيذ الخائف شر ما يحذر، أو يسلي الفقير عن فقره، أو ينسي المفارق لواعج فقده ويطفئ لوعته وحنينه ، إن لم يزد منها .
البحر واقعي جدا يعرف حدوده بالضبط، وابعاده، وقدراته.. و يعلم بأنه أصعب من أن يقطعه أو يتخطاه قارب يحمل على متنه آلاف من الاماني الساذجة في حياة رغيدة على جانبه الآخر ..
ولا يملك إلا أن يلتج ويرجف – أسفا – من تلك الأماني لأنه يعلم أن الإنسان اللص القاتل الذي دفع بالمئات للفرار فوق قوارب مطاطية هو نفسه الإنسان اللص القاتل الذي ينتظرهم في الجانب الآخر من الشاطئ !
لم يكن البحر في يوم من الأيام (غدار ) لأن الغدر صفة من صفات الإنسان الذي يحاول أن يلصقها بالبحر نتيجة عجزه ، فالبحر يعرف أمواجه جيدا، ويعرف تقلبات الطقس على سطحه المعتادة والمفاجئة، ويعرف الكائنات التي في بطنه….المشكلة هي في الإنسان الذي يريد أن يخوض غماره، أو يسبح عكس تياره، أو يصطاد دون أن يدرك حجمه وقدراته هو ، وعندما يغرق يتهمون البحر وأمواجه البريئة بالغدر ، أو يرمون أسنان الأسماك المسكينة بتهمة القتل !
البحر ناصح أمين ..فما صخب أمواجه، وتلاطمها على الصخور والكثبان الرملية، وهدير دفقاته،وهياج واصطفاق تياراته إلا نذير للمغامرين، والجهلة، والأغبياء ، وما هسسة مده وجزره إلا بشير للصيادين، والمصطافين، وعشاق النزهة على ضفافه.
يبتسم البحر لمن يبتسم له ، فيرزق من يتكل على الله في طعامه، ويهدي طريق من أحسن ركوبه ،وهو صديق من يعرفه ويثق به، وعدو لمن يفسده، ومستودع كتوم زاخر بذكريات محبيه ، فكل سر أباحوه، وكل حرف على الرمال كتبوه ، يدفع البحر بالموج ليمحوه ، فيحفظ السر حتى لو كان محبيه قد نسوه، وما أن يعودوا إلى الشاطئ إلا ويذكرهم به فيتذكروه ، فلا يملكون إلا أن يبتسمون له ويشكروه .
والبحر شاهد أمين على جرائم أعظم وافتك حيوانات البر ،عدوه اللدود الذي لم ينساه مذ حمله على ظهره بضعة أشهر وما إن وصل إلى البر ، ولمست قدماه الخبيثتان رمال الشاطئ الجديد حتى بادر بقتل أمة من الهنود الحمر ، واستعبد أمة أخرى من السود، واحتل ونهب أربع قارات وتسلط على العالم كله… فملأ الأرض فسادا،والسماء دخانا، ولاث الماء بالسم لواثا …لكن البحر صبور، ولا حدود لصبره ، فهو يرصد ويراقب بصمت..كم أنت عظيم أيها البحر .
التعليقات مغلقة.