البرج …محمود حمدون
البرج …محمود حمدون
====
أحد ” آلهة ” جبل ” الأوليمب ” هبط من عُلاه , هو ” أبو العز ” أقسمُ أنّي عندما رأيته كان يجلس بجوار ” برج ساعة جامعة القاهرة “في عظمة تليق به , ينظر للفراغ , لا تعنيه المارة من حوله, أقبلت عليه , نظر إليّ بطرف عين , غمغم : أجزم أنيّ التقيتك من قبل .!
بدأت معرفتي بالسيد ” أبو العز ” في ظروف غريبة , فقد التقيته بالبهو الرئيسي بكلية الحقوق , شيخ , تجاوز السبعين, ينحسر شعر رأسه تاركًا صلعة كبيرة تضوي تحت وهج الشمس , يخفيها أحيانا عن العيون خشية الحسد بعمامة كبيرة ,
يرتدي جلبابًا عليه ” سُترة ” و ينتعل ” صندلاً ” , يتأبط صندوقه الخشبي , بيمينه فرشاة خشبية سوداء الشعر , ميدانه الرئيسي ” كلية الحقوق بجامعة القاهرة” يدخلها قبيل الثامنة صباح كل يوم ,لا يخرج منها إلاّ عند هطول المساء. ينطلق بين المكاتب و ردهات المباني العتيقة , صلاحية لم تتحقق لكثيرين , فكان يسمع و يرى , يتركونه وشأنه اعتقادًا بتواضعه في كل شيء.
عرفته صاحب أنفة واضحة , و إصرار على مناداته باسمه مسبوقا بلقب ” السيد ” غائر العينين , ينسدل عليهما حاجبان كثيفان , كلماته قليلة , غمغمته تطغى على حديثه , صارت بيني و بينه ألفة و مودّة كبيرتين, ينتظرني يومي الأحد والثلاثاء من كل أسبوع عند المدخل الرئيسي وعيناه ترنوان للأفق البعيد فيما وراء قبة الجامعة الشهيرة , فإن رأيته وتجاهلته , ضرب بفرشاته على صندوقه بلحن مميز ليلفت نظري , ثم يأتيني سعيًا.
يجلس القرفصاء على الأرض أمامي ,بجواره صندوقه, ثم يجذب الحذاء عنوة و ينطلق ليرسم بفرشاته لوحة فنية لا يراها سواه , لم أره من قبل يستخرج من صندوقه ” ورنيش ” أو سائل تلميع للأحذية , فقط ضربات قليلة يوجهها بيديه للحذاء , كأنما يوقظه من غفلته , فيستجيب الحذاء بدوره و يعود إليه رونقه وبريقه ..
عندما التقيته, منذ أسابيع مضت سألته : ستة عشر عامًا مرت على آخر لقاء بيننا , أتذكر أيام الدراسة ؟!
- بصوت رخيم : نعم تذكّرتك , لم تنل منك الأيام .
قلت : أنت أيضًا , كعهدي بك , انشغل عن حديثي بالنظر إلى شيء بالأسفل , تتبّعت عينيه , وجدته يحملق في قدمي , كنت أرتدي حذاءً رياضيًا , هوى بفرشاة التلميع على صندوقه الخشبي القديم القابع ككلب وفيّ بجواره, خبطة أرتعد لها فؤادي , قال بصوت خشن كمن ينهي المقابلة : ترتدي ” كوتشي “… الله يرحم.
التعليقات مغلقة.