البرد والسكين
ابراهيم معوض
(1)
ألقت السماء على الأرض سيلا بارداً، تحولت الحارة إلى مستنقع تنزلق أقدام الشباب وعصي الشيوخ. ضحكات ساخرة لا تكاد تكتمل حتى يقع صاحبها على أنفه، وقفت أمي في صحن الدار تدعو الله وتنادي على بصوت يملؤه التهديد: سيأكل البرد جلدك ويجفف عظامك. اسرعت نحو الداخل اتحسس بدني بكفي الصغير: مازال كما هو لم يأكله البرد. رأيتها وهى تتم دعاءها لي ولأبي وكعادتها نسيت نفسها من الدعاء.
-لم الدعاء وقت المطر يا أمي؟
-لأن المطر كله خير.
فضحكت حين تذكرت عم بهنس وأنفه مغموس في الطين. ضربتني على ظهري
-يا قليل الحياء؛ تضحك على. يارب اشوفك طيار.
ارتعد بدني حينما رأيت فرخ الحمام يكاد أن يقتله المطر، جففته بكم جلبابي واعدته إلى الصفيحة المعلقة على باب المندرة وردت بصري إليها: هذا الفرخ سيكون طيارا هو أيضاً. فاختلطت ضحكاتها بنقرات المطر على السقف الصفيح ثم كتمت فمها بكفها كي لا توقظ أبي. سحبتني من ذراعي جففت رأسي بمنشفة قديمة وبدلت ثيابي وأمرتني أن اتسلل إلى دفئ أحضان ابي دون أن اوقظه. دارت تطوف البيت تزيل آثار المطر الذي عجز السقف المتهالك عن حجبه. عبرت باب المندرة على اطراف اصابعي انزلقت فى أحضان ابي وظللت احتضنه حتى ذاب ثلج اطرافي.
اطمأنت نفسي بدفئ الأبوة والأمومة ونمت. ولا أدري أن الغيوم مصيرها المطر فقمت ملتاعا على برد يشق بدني بحدة سكين: ما بال جسد ابي قد صار بارداً؟
احرك كفي على صدره بلا جدوى.
صرخت. طار زوج الحمام من الصفيحة وسقط الفرخ مرة أخرى وداسته أقدام المهرولين.
يبدو أن الفرخ الطيار قد مات -هذا كل ما ادركته يومها-
(2)
اطمأنت الأرض ونامت فى ظل سماء داكنة، ولا تدري أن الغيوم مصيرها المطر؛ قامت فزعة على برد يشق بدنها بحدة سكين، فقررت أن تتكور وتدور حول الشمس تتسول الدفء، حررت شفتي لأفرج عن آخر نفس من سيجارتي وكلما عاودتني وخزة الصدر قررت أن اقلع عن التدخين وكلما خفت وطأة الألم عدت وتذكرت مقالة صديقي الذي مات: الدخان يذيب ثلج الشتاء ويدفئ الجوف. كانت ليلة شاتية اطمأنت نفسي فيها لصهد المدفأة ونمت ولا أدري أن الغيوم مصيرها المطر فقمت ملتاعا على برد يشق بدني بحدة سكين وصوت مكبر الصوت ينطلق من المسجد ليعلن وفاته، نعم نعم ذكر إسمه ثلاث مرات وأسماء أهله كلهم ولكنه لم يذكر أنه كان صديقي. .
إبراهيم معوض
فبراير 2020
التعليقات مغلقة.