البروفيسور قصة قصيرة للنقد بقلم أسامة الحواتمة -الأردن
في استراحة الربع ساعة قبل محاضرته التي لم يتَجهَّز لها جيدا ذلك البروفيسور المبدع، فهو كعادته يكتفى باختيار فكرة ما ضمن مساق خطته التدريسية ثم يترك الباقي للحظةِ عصفٍ ذِهنيَّة وخصوصا إذا كان موضوع المحاضرة يتعلق “بمستقبل الطقوس الكتابية في ظل تطور أدوات الكتابة”.
انتهت استراحته ثم دخل إلى القاعة من ثقبها الأسود بوابةِ أفكاره؛ وبعد مقدمته الطويلة بدأ يعصف بأدمغة الحضور:
-…أيها السادة، إن الكتابة في العصر المقبل رغم ما له وما سيكون عليه، والتطور الذي ستؤول إليه أدوات الكتابة من قلم وورقة إلى الآلة الكاتبة
فهذه أدوات نعرفها، أليسَ كذلك؟ -بالتأكيد نعم.
وربما تتطور أداة الكتابة إلى شكل لا تتوقعونه أبداً، مثلا على شكل آلة صغيرة محمولة بالكف أو بطريقة أخرى كأنْ تلعب أصابع الكاتب على الهواء وتخرج الأوراق من جيبه الأيمن!
ولا أدري كيف سيكون تفاوت ميول الكُتَّاب مع استخدام أدواتنا المعروفة أو مع ذلك الاختراع المُحتمل؛ لكنني أظن أن بعضا من الكُتَّاب لن يستغني عن القلم والورقة والبعض الآخر لن يفضل سوى الآلة الكاتبة أو ما يتطور عنها،
أما تلك الآلة الصغيرة المحمولة بالكف وذلك الاختراع حينها، فإن الأغلبية من الكُتَّاب سيفضلونها كوسيلة أسهل وأسرع للكتابة وبمناسبة هذا الاستشراف، أخبروني، هل ستختلف طقوس الكتابة حينها عن طقوسكم التي تمارسونها اليوم يا سادة؟
ينهض “فيكتور هوغو” من يمين القاعة:
-إنها لحظة التجرد من الثياب الخاصة بي فبغيرها لا يخط لي قلم لكنني أضمن لك أن ذلك الاختراع وإن حدث سيجعلهم يتخلون عن ملابسهم حتى دون أن يكتبوا حرفا واحدا.
في الجناح الأيسر يبدو أن “ماركيز” كان يخطط لأمر قبل أن يدلي بدلوه:
-هي الآلة الكاتبة يا سادة، أصوات أزرارها فقط توقظ أبطال قصصي وما علي إلا أن ألقي بهم من فوق الأسطح الشاهقة ليروُوا لكم مشاهد الغرف المغلقةِ أبوابِها وهم يسقطون بمحاذاة شبابيكها الخلفية، أَمَا لو طال عمري وتحقق ذلك الاختراع الذي تتحدث عنه؟ فمن يدري؟ هل أزرار طابعتي الملهمة سيكون لها الرقصة الحاسمة في مسرح العالم، إذا ما خبت أصوات المدافع؟
لتستدير بكرسيها “أجاثا كريستي” في منتصف القاعة:
-أَمَّا أنا لا يروق لي الحديث عن ذلك الاختراع؛ ولا يروق لي أيضا دمار العالم بتلك السرعة والسهولة، لكن قبل رواياتهم التي سيزعمونها.. ما أحوج زعماء العالم حينها لحوض السباحة الخاص بي!.
حسنا، حسنا أيها السادة داهمنا الوقت فاستمرار خروجكم عن النص سيكون سببا كافيا لاعتقالي خارج القاعة، دعونا نتفق في نهاية المحاضرة أنه رغم ذلك التطور في الأداة واختلاف طقوسها مستقبلا، ستبقى الكتابة رهينة بالحالة النفسية والمزاجية لكل كاتب، لنصل إلى حقيقة مفادها: متى حضرت الفكرة إلى مخيلة الكاتب؛ تنساب الكلمات في سياقها وحسب جنسها الأدبي.
والأهم من تلك الحقيقة …. حقيقة أخرى: لن يكتب الكاتب نصه بشكل مكتمل إلا بوجود محفز ما غير محدد ويختلف شكله من إنسان لآخر …. نعم، وجدتها إنه المحفز!
فجأة، يتوقف البروفيسور عن الكلام بسبب عدة طَرَقَات متتالية على باب القاعة!!!
البروفيسور يلتقط أنفاسه:
-مَنْ بِالبَاب؟
-أنا نجيب محفوظ.
-تفضل، تفضل بالدخول.
-أعتذر عن التأخير؛ لقد اعتَقَلوني خارج المقهى..؛ فروايتي لم تنتهِ بعد: أَرضٌ مباركة مقابل فنجان قهوة.
2022/4/12
التعليقات مغلقة.