البشائر – خاطرة-بقلم د. ابراهيم مصري النهر
في أوائل شهر يونيه، بعد أذان العصر، تحت ظل شجرة سامقة على رأس الغيط، جلس أبي وأعمامي بعد أن نادى بعضهم على بعض؛ لا أدري ليلتقطوا أنفاسهم أم ليلتقطوا أنفاسا من لفافات التبغ. كان أحدهم بعيدا ومندمجا في عمله فلم يسمع النداء؛ وضع أحدهم اصباعيه في فيه وأطلق صافرة قطعت عليه حبل اندماجه، التفت إليهم؛ أشاروا إليه: أن تعالى، وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث وهم يحتسون الشاي؛ أتى إليهم يهرول وهو يدندن فرحان بعبارة: ”وهلت البشااااااير“، ويحمل ثمرة من ثمار البشائر، يرميها لأعلى ويلتقطها.
وكان حديثهم هم أيضا عن البشائر، وهي كلمة تحمل كم هائل من السعادة والتفاؤل، وإيذانا بقرب حلول موسم الخير عند الفلاحين، وهي أوائل ثمار الشمام الناضجة، وكنا نتهادى بها.
تتغير ثمار الشمام تدريجيا من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر، ويبدأ عنقها في الإنفصال عنها، لتبدأ الأم في انضاج ثمرة أخرى وهكذا، في صورة مشابهة تماما للحبل السري للجنين، الذي ما أن يأتي طلق الولادة إلا وتبدأ المشيمة في الإنفصال عن الرحم، وما العجب في هذا التشابه إذا كان الخالق واحد سبحانه!
عندما ينتصف يونيه وترتفع درجة حرارة الجو، يزداد عدد الثمار الناضجة؛ يحمل أبي مقطفا ليضع فيه الثمار، وعندما يمتلئ يفرِّغه على الممرات المتروكة لذلك، فتبدو الممرات بعد أن تشوَّنت عليها الثمار بلونها الأصفر كأنها خطوط من الذهب تزين قطعة كبيرة من القماش الأخضر.
وكان دورنا نحن الصغار حمل تلك الثمار من الممرات إلى الشادر بالحمار، بعد وضع الجِّنَب عليه (قفتان مثبتتان في خشبة) وأصغرنا يركب على ظهر الحمار ليصنع التوازن بين الجنبتين. أحيانا يحدث أن الحمار ينفر في وجه أحدنا، فكان أبي يقل له: اتفل في وجهه لكي لا تصاب بالسنط (warts)..
ولا أعلم مدى صحة هذه المعلومة طبيا، ولكن هذا ما كان يحدث.
وطبعا أنا لا أقصد التفل في وجه الحمار يمنع السنط، ولكني أقصد هل نفر الحمار والرذاذ الذي يتطاير من منخاره يصيب بالسنط؟!
بعد الإنتهاء من نقل الثمار إلى الشادر، تأتي السيارة النصف نقل لتحمل الثمار إلى مثواها الأخير، حيث سوق الخضار ثم بطون المستهلكين.
ويقبض أبي الثمن كثمرة كفاح وشهادة نجاح، وفي طريق عودته يحمل اللحم والحلوى والحمص للأهل والجيران، كعادة سنوية وخصوصا في أول نقلة، نقلة البشائر.
فكان الأهل والجيران يفرحون ويتمنون الخير لبعضهم البعض، وينتظرون عودة من سافر بالبشائر محملا بالعادة، ويدعون له بالبركة وزيادة الرزق، وألا يقطع الله له عادة.
للأسف غابت كلمة البشائر وغابت معها العادة، وما سمعتها ثانية إلا في بلاد الحرمين في صيغة أبشر، ولكنها كانت سادة، بدون عادة.
التعليقات مغلقة.