التغاضى ومقدمات الطلاق بقلم هنا سعد
لقد جعل الله الزواج أمرًا اختياريًا، لم يفرض زوجا بعينه ولا زوجة بعينها؛ بل اختيار كلا منهما لبعضهما يكون بمحض الإرادة، وقد سبق علم الله بذلك فقدره وكتبه عليهما
إنه حقًا قرار خطير لما يترتب عليه من أمور مصيرية أكثر خطورة.
وقد عكف علماء الاجتماع والمختصين بالعلاقات الأسرية لسنوات عديدة على دراسة أسباب الطلاق وتوصلوا إلى عشرات الأسباب التى تفضى فى نهاية المطاف إلى إتخاذ هذا القرار؛ الذى سيظل بغيضًا مع كونه حلالًا؛ فى حالة استحالة الاستمرار بشكل هادئ ومستقر ومحترم
بعضها يرجع إلى صفات وطباع أصيلة فى شخص أحدهما لم يتم اكتشافها قبل”وقوع الفأس بالرأس ” ثم اتضحت وصارت جلية بعد الزواج بفترة ما؛ سواء أكانت فترة قصيرة أو طويلة
وبعضها تم اكتشافه بالفعل قبل الزواج أثناء فترة التعارف “الفرصة الفائتة” وأسميها هكذا لأن الغالبية العظمى من المقبلين على الزواج يفوتونها فى شراء مستلزمات منزل الزوجية وتجهيزه بكافة المتعلقات المادية دون الالتفات إلى قيمتها الحقيقية فى كونها “مختبر” دقيق للطرفين،
إلا أن الكثير من هؤلاء يقع فى فخ “التغاضي” عن اكتشافه العظيم أثناء هذه الفترة
والتغاضى يعنى التغابى والتغافل عن بعض الأمور بقصد أو بدون قصد.
ويكون التغاضى المذموم عامةً عن شيئين غاية فى الخطورة والدلالة
الأول
التغاضي عن مشاعر عدم الارتياح أو عدم القبول المبدئي الذى يحدث فى اللقاءات الأولى من التعارف
يمنح الله كلا الطرفين شفافية كبيرة وحدس قوى
تجاه الطرف الآخر فيستطيع كلاهما أن يستشعر الخطر، والنفور، وعدم الارتياح النفسى، ويدركه بقوة، دون سبب واضح، ويعبر البعض عن ذلك الشعور “بالانقباض” الذى يصيبه بعد الطلّة الأولى للشريك المستقبلى، إلا أنه يتأكد فيما بعد بالأدلة والشواهد
خاصة المرأة، حيث أنها تتمتع بمايسمى “الحاسة السادسة” بنسبة تصل إلى 60% مقابل 40% فقط للرجال والتى تجعلهن أكثر مهارة فى قراءة الوجوه وترجمة مشاعر الآخرين ولاسيما فى مواقف بعينها ومع أشخاص معينين تربطها بهم علاقة ما مثل الخاطب والزوج والأبناء _حقيقة علمية أثبتتها جامعة كامبريدج_ وعلى الرغم من ذلك يقرر أغلبهن تجاهل هذه المشاعر ويرفضن الاستماع لنداءات التحذير الداخلية قبل الزواج ويفضلن التغاضي عنها .
ليس من الذكاء أبدًا التغاضى عن مشاعر عدم الارتياح النفسي بين المقبلين على الزواج وليس من الصواب عدم الإنصات لصراخ العقل الباطن والحدس فى هذا المشهد مطلقًا
ورغم إنى دائما ما أنصح باستخدام التعقل والتروي فى الأمور كلها إلا فى هذا الشأن وفى هذا الوقت بالتحديد؛ هنا لانحتاج أكثر من أن نحترم مشاعرنا ونصدقها، لا نحتاج إلى منطق وأسباب وتقييمات معقدة؛ فقط صدّق/ى هذه المشاعر؛ فغالبًا ما تكون صائبة، للقلب هنا دقة قوية بمطرقة تشبه مطرقة القاضى التى يستخدمها لإعادة الانضباط بعد عموم الفوضى، قبل قرار ه برفع الجلسة
والثانى
التغاضي عن بعض الصفات والسلوكيات التى تظهر شيئا فشيئا من خلال التعاملات المتكررة فى فترة ما قبل الزواج
إنها فرصة عظيمة لدراسة كل منهما للأخر، ووقوف كل طرف على سمات شخصية الطرف الآخر ، وقيَمه، وطريقة تفكيره، واتجاهاته، ومزاجه، وخلقه، وقضاء وقت الفراغ، وعاداته في الإنفاق والمأكل والمشرب، وأساليبه في التسلية والترفيه، وتحمله للمسؤليات الموكله إليه، وعلاقاته مع الأهل والأصدقاء، ومعالجاته للأمور، وردود فعله تجاه المواقف والأحداث
وهذا كله لايمكن أن نتغاضى عنه مطلقًا ولا أن نتخذه على سبيل السلوك المؤقت أو القابل للتغيير بل لابد أن نحمله على محمل الجد
وليس من المنطقي المقبول أن يُنظَر لهذه الفترة على أنها رومانسية حالمة وحسب، ولايُلتفت للمشاكل التي تظهر فيها؛ وليس صحيحًا التغاضي عنها لإتمام الزواج؛ ولكن هذا الاكتشاف العظيم للأسف يكون متأخرًا، ثم نُصدم فيما بعد بنتائجه
حقيقةً لايوجد شخص مايمتلك البراعة الكاملة فى التستر والتخفي وراء قناع سميك ولكن يوجد شخص تغافل وتغاضى عما يراه من وراء القناع؛ فلا تلوموا الحياة والاقدار ولكن لوموا انفسكم عندما تغاضيتم عما يزعجكم حينما كنتم على بر آمن
هنا تكمن مقدمات الطلاق؛ التغاضى عن إهمال مشاعر الانقباض، وعدم الارتياح النفسي فى اللقاء الأول، والتغاضى عن المواقف المخزية الصادرة عن الطرف الآخرقبل الزواج ؛ السبب الرئيسى لفساد الحياة والوصول إلى طريق مسدود
إن رفض خاطب او فسخ خطبة أقل ضررًا من المآسي التى يتعرض لها الزوجان خلال حياتهما الزوجية؛
فالاستعجال واللهفة غير المبررة على ركب الأزواج سببًا فى تغاضي البعض عما يرونه عما يلمسونه من عيوب فى الطرف الآخر
لا ننكر أن التغاضي مطلوب أحيانًا كثيرة لضمان أن ترسو مركب الحياة الزوجية لبر أمان؛ نصيحة يسوقها أصحاب المشورة والرأي، أما قبل الزواج فالتغاضي بغيض تماما كأبغض الحلال وعاقبته وخيمة على مستقبل أسرة كاملة
جميل أن نتغابى قليلًا لنكسب من نحب، ولكن ليس جميلًا أن نتغابى كثيرًا فنخسر أنفسنا.
التعليقات مغلقة.