الجرعة الأخيرة بقلم محمد مندور

في عينيها رأى وجهه يتكور، يهبط بانحدار، يبلل أرضا خُلق ليسكن فوقها, إلا أنه وبعد عام ونصف من مولده غُطي بترابها، صعد مصيره لأعلى، لا يملك حيلة ليرضي حنان أمه منذ الجرعة الأخيرة التي مُنع استكمالها.
_ لو يعود لطمئنتها وتعلم أنه بخير، لو تكف عن البكاء!
كل يوم تأتيه وتضع يديها فوق لحده تطلب الصفح، وهي البريئة من التهمة.
الحقيقة التائهة أنه شعر بخفقان قلبها يهزه هزا، وانكماشة من قشعريرة تجوب جلدها الرقيق حتى ثغره، تأمل عرقها المصبوب فوقه، فتح فمه بتعجب، كيف لها بعد عناء يوم ترق وتحتضننه؟!
الخطأ خطئه، هو من قتل فيها الأمل، هو من أورثها حزنا يدوم، لو يومها انتبه وقبضت شفتيه بحكمة الرضع لما غير اللبن مساره واخترق حاجزا وأد طفولته…
حبيبته ترتجف، عيناها حمراوان، تتشنج بقوة، ذبذبات ضعفها تمتصه جدران تحتفظ بفنائه، يسمعها :
أحضرت طعامك الذي تحبه.
تنادينه، تحايله أن يمضغ، ألا يترك لقيمة، هكذا كل ظهيرة في صيف يمر، أوشتاء يرحل.
من أخبرها بأنه يشتهي من الطعام هذا دون غيره؟!
تسأله عن شبعه من عدمه، تعرف إجابته ببسمة يبعثها في ذاكرتها، يستريح قلبها، وتمسح رأسه الذي تحلل منذ عشرة أعوام، ينفذ الدفء عابرا من سطح الدنيا إلى برزخ الخلود…
يطرق في الليل نومها، تقبل ويقبل، تجري خلف الزمن، يستقبلها فاردا ذراعيه، تسعد بعمره وطوله ونطقه، ويحزن على شحوبها وألمها وهمها، تجالسه لتُعْلمه ” أن في حنينها شوق لو وزن بشوق العالم لرجح شوقها”
يمد شفتيه هذه المرة لا من أجل شفتة بل ليشعر بلين قبلتها، يستعيد روحه وينتفض جسدها مذعورا وهو بين أحضانها.