” الجزء الثاني ” من الحلقة السادسة من آلهة مصر القديمة بقلم : سيد جعيتم
ديانات العالم القديم في مصر والشام والعراق- تحمل في موروثاتها تشابهات قوية مع الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، ومع ما جاء في معتقدات وكتب الصابئة، وأسطورة (أوزوريس) الذي قال البعض إنه سيدنا (إدريس) وقصة الطوفان العراقية دليلا على هذا التشابه
كما أن كثيرًا من النصوص التي وردت في وصف الآلهة بها شبه إلى حد كبير ببعض النصوص التي وردت بالكتب المقدسة، وفي بحث لي كنت قد أعددته عن فرعون سيدنا موسى استشهدت بنبوءة (نفر رهو) وقصة الغزالة في التاريخ المصري القديم، و أرجح أن كتاب هذه الأساطير لهم دراية بنصوص سماوية سابقة وقد أخذوا منها، وتذكر كثير من المصادر أن سيدنا (إدريس/ أخنوخ) -عليه السلام- وجد بمصر أما أنه من أهلها أو حكامها أو مر عليها فقط.
قال تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)) سورة مريم
وقد رفع إلى السماء حسب الروايات الإسلامية وورد ذكره في سفر التكوين (اسم عبري ومعناه (مُكَرَّس) أو (محنك) ولفظ الاسم في الأصل العبري هو نفس الاسم حنوك في الترجمة العربية. وهو ابن يارد وأبو متوشالح( تك 5:18،21) وهو السابع من آدم ((يهوذا 14) من نسل شيث وعاش ثلاثمائة وخمس وستين سنة (تك 5:23 ) ويخبرنا الكتاب المقدس أنه لم يوجد بعد ذلك لأن الله أخذه( تك 5:24 )الله أخذه بأن الله نقله لكي لا يرى الموت.
وفي سِفر أخنوخ (من الأسفار غير القانونية) لعدم ضمها للكتاب المقدس، نجد وصفًا لمعراج أخنوخ/ إدريس إلى السماء وحواره مع الرب الذي وعده أن يكون ممن يشهدون على الناس عند حساب الآخرة، ثم رجوعه للأرض وتعليمه أبناءه ما تعلمه في السماء، وأخيرًا حمل الملائكة له للسماء مرة أخيرة.
أكد الدكتور وسيم السيسي، عالم المصريات، أن (أوزوريس) هو من دعا للتوحيد، وأسس لقانون الأخلاق في مصر القديمة، مضيفًا أن أوزوريس هو المذكور في القرآن بسيدنا إدريس، جاء ذلك خلال ندوة (الهوية المصرية بين التاريخ والمعاصرة)، المقامة بمعرض الكتاب 2017.
اتفقت مصادر التأريخ الإسلامية على أن إدريس عاش في مصر وكان ملكًا عليها، يذكر السيوطي في كتابه (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة) يذكر اسم إدريس بين من دخلوا مصر من الأنبياء، ثم دفع له أبوه العلوم المتوارثة عن جده، فطاف بالبلاد وبنى عشرات المدن في مختلف الأنحاء
أصغرها (الرها) بالأناضول ثم عاد إلى مصر وحكمها وزاد في مسار نهر النيل وقاس عمقه وسرعة جريانه وكان أول من خطط المدن ووضع قواعد للزراعة وعلّم الناس الفلك والهندسة، ويربطه بالصابئة (واسمه في كتبهم (هرمس))
ويقول إن بعضهم يدّعي أن أحد أهرامات مصر قبره والآخر قبر جده شيث بن آدم.
و أورد المقريزي في كتابه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) المعروف باسم الخطط المقريزية، أن إدريس مَلَك مصر وكان أول من بنى بها بيوتاً للعبادة، وأنه أول من علّم الناس الطب.
وينقل المؤرخ ابن تغري بردي في كتابه (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) رواية عن بناء إدريس للأهرام، فيقول إنه قد استدل من فهمه لحركة الكواكب على قرب الطوفان، فبنى الأهرام
و أودعها العلوم التي خشي من ضياعها.
وفي كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) يذكر ابن إياس الحنفي (إدريس) بين من دخلوا مصر من الأنبياء وحكموها.
وتقول بعض الروايات التي نقلها ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) عن اسم (بابليون) إن إدريس كان يعيش في أرض بابل، لكنه تعرض لبعض المضايقات فدعا الله أن يرسله إلى أرض مشابهة فأرسله إلى مصر وصار ملكه بها.
يقول القرطبي: إدريس عليه السلام أول من خطّ بالقلم وعلّم الزراعة وتخطيط المدن ولبس المخيط والسكن في البيوت، وزاد البعض بأنه أول من ركب الخيل وجاهد في سبيل الله.
ومؤخرًا قال الدكتور على جمعه مفتي الديار المصرية السابق، أن الشيخ محمود أبو الفيض المنوفي في كتابه (العلم والدين)، تحدث عن أن وجه أبي الهول هو سيدنا إدريس، وأن الأثريين يذهبون إلى أن أبا الهول موجود قبل الأهرامات، وأن سيدنا إدريس ليس هو خوفو أو خفرع أو منقرع، ويتفق مع هذا القول كتاب (تأملات بين العلم والدين والحضارة) تأليف محمد فتحي عبد العال، حيث يرى أن أبا الهول هو الأثر الخالد لإدريس عليه السلام، مشيرا إلى أن إدريس كان يخط على الرمال وعلاقة أبي الهول بالرمال وطيدة ترافقت مع التمثال عبر تاريخه.
بعد أن أوردت بعض المصادر التي ذكرت وجود سيدنا إدريس في مصر، نأتي للربط بين سيدنا إدريس وأوزوريس في الموروث المصري القديم، والأسطورة أشبه بـ (السيرة الشعبية) التي غزاها الكهنة في عصر الدولة الوسطى وأضافوا لها أبعادًا أسطورية لتأخذ شكل الملحمة.
أوزوريس يعتبر من أهم آلهة التاسوع الإلهي المقدس (تاسوع هليوبوليس) وهو مجلس يضم الآلهة الأعلى في مصر، وكان من الملوك الآلهة، وعلّم الناس الزراعة والبناء وسائر فنون الحياة.
ووفقًا لبردية (تورينو) فإن ملوكًا من الآلهة قد حكموا مصر قبل الملوك البشر، كان أوزوريس الملك قبل الأخير منهم، وهو من علّم الناس الزراعة ومختلف فنون الحياة وأشهرها لبس المخيط والكتابة، وهو في الرسوم والنقوش المصرية يظهر مرتبطًا بالزراعة من خلال تصويره راقدًا وعيدان الزرع تبرز من جسده
وفي كتاب (الجبتانا) الذي وضعه المؤرخ المصري مانيتون السمنودي ودوّن فيه قصة الخلق المصرية القديمة وأحداث أول الزمان حتى تكليف الآلهة لـ (مينا نارمر) بتوحيد مصر التي مزقتها حرب (سِت مع أخيه حورس المنتقم لأبيه أوزوريس) ورد وصف لـ (أوزوريس) أنه يتلقى من حين لآخر دعوة الآلهة فيصعد إلى السماء ويتعلم منها فنون البناء بالحجر والخط بالقلم والزراعة
والحكمة وتخطيط المدن، وتصفه بأنه أول من جعل الجبتيين (المصريين) يسكنون البيوت بعد أن كانوا يسكنون الكهوف خوفًا من الوحوش والمسوخ، كما تنوه بأنه أول من شيّد المعابد الضخمة، واهتم بتعليم الطب، وابتكر أدوات الزراعة والري مثل المحراث والشادوف، وازدهرت في عهده المدن والصناعات وعرف الناس لبس الأثواب الكتانية، وكان يتلقى وحي الآلهة ويرى الرؤى في نومه، وقد حكم مصر بالعدل حتى اغتاله سِت ثم عاد إلى الحياة ثم رفعته الإلهة إلى تاسوعها المقدس، وهو وفقًا للعقيدة المصرية القديمة- قاضي قضاة محكمة الآخرة.
ووجه التشابه بين سيدنا (إدريس و (أوزوريس) عبارة عن نظريات لا توجد أدلة قاطعة تدعم فرضيتها وتمثلت أوجه التشابه في الآتي:
كل منهما كان مَلِكًا عادلًا ملهَمًا من السماء وعاشا على أرض مصر .
ـ علموا الناس الزراعة والتخطيط والكتابة والطب والحكمة ولبس المخيط، وتشييد المدن وَتَعْمِير البلاد.
كلاهما ترك الدنيا مرتين، فإدريس عرج إلى السماء ليتعلم ثم هبط ليعلم الناس ثم رُفِعَ أخيرًا، وأوزوريس قُتِلَ ثم بُعِثَ ثم رُفِعَ.
كلا من الجبتان وسفر أخنوخ يتلقى بطله وعدًا إِلَهِيًّا بأن يقوم شهيدًا على الناس يوم الحساب، وأورث إدريس مُلكَه ومكانته لابنه متوشالح، بينما أورث أوزيريس نفس التركة لابنه حورس.
انتظروني مع الحلقة السابعة..
التعليقات مغلقة.