الجهاردية فرقة باطنية ساهمت فى تقويض دولة المماليك
الجهاردية فرقة باطنية ساهمت فى تقويض دولة المماليك
د.أحمد دبيان
الجهاردية جماعة سرية باطنية استطاعت بأفكارها تقويض دولة المماليك وتغيير خارطة الشرق الأوسط القديم .
اشتقت كلمة جهاردية من جهاردة وهو رقم ١٤ الذي يؤدي إلى علم طلسم الكون بالأرقام، لكن تاريخيًا ما هى قصة الجهاردية الحقيقيين.
كلمة جهاردة فارسية الأصل وتعني
“لعبة الأربعة عشر”، ويشير الجزء الأول من كتاب “كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع” لشهاب الدين بن حجر الهيتمي أنها أخشاب يحفر فيها ثماني وعشرون حفرة، أربع عشرة من جانب وأربع عشرة من الجانب الآخر.
سمى العرب هذه اللعبة بـ “الشهاردة” وأطلقها عليها أهل مصر زمن المماليك بـ “المنقلة”، وكان ظهور جهاردة الأول كـ لعبة في العالم الإسلامي زمن عبدالله بن عمر بن الخطاب الذي أعلن عداءه لتلك اللعبة لدرجة أنه كسرها على رأس أهل بيته وقال “لئن تحترق بيوتكم بالنار أفضل من هذه اللعبة”، وأورد بن أبي الدنيا في كتابه “ذم الملاهي” ثلاث قصص لعداء بن عمر لها.
لم يفسر عبدالله بن عمر سبب عداوته لتلك اللعبة سوى أنها عاملاً لقيام طرفي اللعبة بالحلفان وهذا إثم لأن المحلوف عليه مجهول وبالتالي صاحب القَسَم يأثم.
بمرور الزمن تطورت الجهاردة من مجرد لعبة إلى خرافة لها جذور وساهمت في الدولة العثمانية مساهمات متعددة منذ أن ظهرت كحركة حقيقية اسمها “الحروفية”.
الحروفية وهى الباب الخلفي لقصة الجهاردية الحقيقيين.
جماعة الحروفية هم فرقة باطنية تعنتق عدة أشياء مثل فكرة الإمام المهدي المُنْتَظر والتناسخ “انتقال الروح من بدن إلى بدن آخر” والحلول “أن يحل الله في أبدان العارفين به”، ويعملون على شرح النصوص القرآنية بتفاسير غيبية من الحروف والأرقام.
أسس جماعة الحروفية فضل الله بن نعيم الاسترآبادي في إيران وقامت مبادئهم الأولية أن رقم ٤ في القرآن تفسيره عناصر الوجود «الهواء والأرض والنار والماء»، أما سور القرآن فجعلوها خريطة لجسم الإنسان تشريحيًا فجعلوا سورة ص للعين والقلب تعبر عنه سورة طه بينما الرأس سورة الفاتحة، إلى حين أن آمنوا بالحلول “بأن الله حل في جسد مشايخهم”، وكانت الحروفية بعد ذلك هجينًا متناقضًا من المعتقدات الوثنية والسماوية والإسلامية.
كانت بداية النهاية بالنسبة لـفضل الله بن الاسترآبادي في مدينة أذربيجان حين وضع كتاب “جاويدان نامه كبير” ومعناه “رسالة الخالدين الكبيرة” وفيه أعلن نفسه إنسان به الأرواح “الألوهية والنبوة وختم أولياء الله”، ورغم قتله في العام ١٤٠١ م، لكن جماعته كان لها انتشار كبير في بلاد فارس بحكم تشيعها، لكن دخولها للدولة العثمانية كان أسهل إذ اخترقت الطرق الصوفية في الدولة العثمانية وعلى رأسها البكتاشية وهنا بدأ التسلل للبلاط العثماني.
فكيف دخل الحروفية بلاد الدولة العثمانية ؟
يشير المؤرخ التركي خليل اينالجك في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار” إلى أن السلطان محمد الثاني المعروف تاريخيًا بالفاتح كان يتمنى فتح القسطنطينية، ووجود الحروفية في بلاد الدولة العثمانية كان عاملاً رئيسيًا في مسألة الترويج لتلك الفكرة.
كان عماد الدين نسيمي هو المبشر للمذهب الحروفي زمن مراد الثاني، والتقى أحد تلامذته محمد الفاتح وأطلق يده في الأيدولوجية السنية العثمانية من البوابة الصوفية، وقرر الفاتح طباعة كتاب “جاويدان نامه كبير” وسماه بالتركية “عشق نامه” وقرر تدريسه بالبلاد العثمانية، ثم بدأت مسألة ربط المهدي بمحمد الفاتح وفتح القسطنطينية بالبشارة النبوية مما أعطى لجماعة الحروفية قوة روحية ومعنوية في البلاد العثماني باختراقها للبكتاشية وسيطرتها على الفاتح جعلتها تصطدم مع رجال السياسة متمثلين في الصدر الأعظم محمود باشا.
اتحد الصدر الأعظم محمود باشا مع المفتي الملا فخر الدين العجمي وقررا مناظرة تلميذ عماد الدين نسيمي وأراد الأخير التنصل من المناظرة بالتملق لمحمد الفاتح فأعلن أن روح الله تجسدت في الفاتح وآل عثمان معصومين فكان هذا عاملاً أساسيًا لطرده وقتله في حلب.
شن محمود باشا حربًا ضروسًا ضد الحروفيين فعرض عليهم السلطان محمد الفاتح تفاديًا للخصومة أن يدخلوا في الطريقة الصوفية الرسمية للدولة العثمانية وهي طريقة البكتاشية ليتغير مسارها وتلعب السياسة والعسكرية بمرور السنين حتى يظهروا كقوة ضاربة بسلاحي الدين والسيف في العام ٤٥٢.
كانت العلاقة بين الحروفية وبايزيد الثاني متناقضة فالحروفية الذين اخترقوا البكتاشية فصاروا أصحابها كانوا مع بايزيد الثاني في صراعه مع أخيه جم بينما البكتاشية الأساسيين كانوا مع جم ولم يعبأ بايزيد بدعم أحد سوى المسلحين لصالحه فحسم الصراع ثم بدأ بالتودد للحروفية إلى أن تركهم للفقهاء فقتلوا شيخهم الملا لطفي بتهمة الزندقة لأنه قال أن الصلاة في الإسلام ليست طقسية أي ليس بها ركوع وسجود وإنما هي روحية فقط.
لتتطور العلاقة بعدها بين الجهاردية الحقيقيين وسليم الأول. لم يكن سليم الأول وهو أمير إلى قبل صراعه مع الصفويين من مؤيدي الخرافات أو مسألة البشارات لكن الحروفية اخترقت غالبية طرق الصوفية الشامية حتى وقعت حرب فلسفية دعائية مع بروز قوة إسماعيل الصفوي، فجماعة الأردبيل الصفوية سوقت أن شاه إسماعيل سيفتح الشام، لكن سليم الأول هزم الصفوي فكانت هذه فرصة ذهبية للطريقة الهمدانية المخترقة هي الأخرى من الحروفيين في حلب وتكره المماليك كرهًا شديدًا.
كانت الطرق الصوفية في مصر غير مخترقة بأي مكون شيعي باطني زمن المماليك وبالتالي كانت دولة المماليك لا ترحم أي شخص منتميٍ للطريقة الهمدانية ولا أي طريقة تنتسب فكرًا لجماعة الحروفيين وأشباههم من العرفانيين ويسجل المؤرخ بن الوردي في كتابه “تتمة المختصر في أخبار البشر”، وقائع حرق وحبس كتب العرفانيين، وظل العداء بين العرفانيين والحروفيين متمثلين في طريقة الهمدانيين والمماليك قائمًا.
مع نجاح سليم الأول في معركة جالديران قرر الهمدانيون الحروفية اختراع أسطورة بالحروف أوردها المؤرخ انتقاء الحصفكي بكتابه «تراجم الشيوخ والأقران» وتقول تلك الأسطورة “ستدخل السين في الشين بعد نصر أول على شين ليظهر قبر محي الدين”. ليكون تأويل حروف أسطورة الهمدانية الحروفية أن سليم الأول هو السين والشين التي سيدخلها هي شام والشين التي سينتصر عليها أولاً هي شاه ـ أي شاه إسماعيل ـ ثم يظهر قبر محي الدين بن عربي، مما يعني قدوم سليم لإزاحة دولة أعداءهم المماليك.
يشرح المؤرخ البوريني في كتابه “تراجم الأعيان من أبناء الزمان” أن المقولة انتشرت بعدما منع المماليك بناء قبر بن عربي ولقيت تلك المقولة صدىً واسعًا وصل لمسامع سليم الأول وبعد دحره لقانصوه الغوري قام ببناء قبر بن عربي وتعظيمه في دمشق.
كان مأزق شوام الحروفية الوحيد مع سليم الأول هو موقفه منهم بعد سيطرته على الشام ومصر، فالسلطان يافوز “اسم سليم الأول ” هو عدو الشيعة والمعروف عنه أن سيفه يسبق لسانه، لكن رغم دموية سليم الأول لم يقتل واحدًا من شيوخ شيعة حلب الحروفية وفق ما حصره المؤرخ محمد جمال الباروت في كتابه “الصراع العثماني الصفوي وتأثيره على شيعة الشام”.
التعليقات مغلقة.