” الجوع ” قصة قصيرة بقلم / محمد كسبه
على الرصيف المقابل للبيت جلس مازن و ياسر يتحدثان بعد يوم عمل شاق .
ما عدنا في حاجة إلى دراسة و لا تعليم فالبطون الخاوية لا يشبعها التعليم .
أنت محق يا مازن لقد تغير الحال يا أخي و تبدلت حياتنا من النعيم إلى الشقاء و البؤس .
أين أختك الصغيرة لولا .
إنها نائمة بالداخل ، ظلت تلعب معي في الشارع حتى تعبت من شدة الجوع و أدركها النوم .
يا ربي هل هذه الصغيرة تتحمل الجوع ؟
في العام الماضي كنت أعلم جيدا أنه آخر عام دراسي لي ، و أدركت حجم الألم و المعاناة التي ستلحق بنا ، بداية من الحرمان الإجباري من المصروف اليومي الذي ما عاد يكفي لشراء باكو بسكويت ، حتى السندويشات أصبحت شيئا من الخيال ، في الشهر الدراسي الأخير كانت أمي تضع لي في الحقيبة رغيفا من الخبز فقط و تقسمه لأربعة قطع ، كنت أنظر لزملائي حين يتاولون طعامهم في الفسحة ، و كنت أتمنى أن تكون وجبتي مثلهم مليئة بالجبنة الرومي ، المربى و السجق و غيرها من الأطعمة ، لكن عسر الحال جعل هذا ضربا من الرفاهية ، فكنت أبحث عن مكان بعيد أجلس فيه وحيدا أتناول فطوري رغيف خبز حاف .
و أنا مثلك يا أخي كنت أعلم ، أن الزمن تغير و أن الفقر و الجوع قادمان إلينا بسرعة الصاروخ ، فكل يوم الأسعار تزداد ، و راتب والدنا لم يعد يكفي شيئا ، الراتب أصبح مخصصا لدفع الإيجار و فواتير الكهرباء و الغاز ، حتى عمله الإضافي في محل تصليح الأحذية لم يعد كافيا .
ذات مره طلبت من والدي ثمن الدروس في المجموعات ، فاستشاط غضبا و لطمني على خدي ثم نعتني بأقذر الألفاظ و الشتائم و صاح في وجهي لا تطلب مني قرشا واحدا ، لم يكن أبي سيئا لكن قلة ما في يده جعله يعاملنا بطريقة لم نكن نتخيلها .
يا أخي الحرمان و الفقر يقسي القلب ، في ذلك اليوم اختبأت خلف الباب خشية أن يضربني ، و قررت ألا أذهب للدروس مرة أخرى ، و علمت أن والدي أصبح ضعيفا و مسكينا رغم أنه قوي البنيان لكن الفقر أكل الخير فيه .
في تلك الليلة اللعينة أنقذتني أمي منه و صرخت في وجهه
ما ذنب هؤلاء الصغار ؟ لم يعد المال كافيا ، علينا أن نتحمل مصاعب الحياة ، وعليك أن تعمل أكثر و أكثر ، أنت رجل البيت ، و عليك أن تتحمل المسؤولية كاملة.
ظلت تبكي ، لم يتحمل الأب كلامها ، اتجه نحوها و لطمها على خدها ثم جذبها من ذراعها و طرحها أرضا .
ما زلت أتذكر ذلك اليوم الحزين ، حين تجمعنا حولها و كنا نبكى بشدة .
-نعم يا أخي أدركت حينها أننا جميعا صغار حتى والدنا أصغر من الفقر الذي أصبح شيطانا يطاردنا ، من المؤسف جدا أن أرى أبي يبكي و لا يعلم كيف يخطو بنا لبر الأمان ؟
ما زالت كلماته تتردد في أذني .
رجل البيت لم يعد قادرا على كسب قوت أسرته ، اليوم طردني صاحب المحل من العمل ، و بحثت في كل مكان عن عمل إضافي فلم أجد ، ماذا أفعل ؟ لقد انهارت حياتنا بسبب الغلاء ، ما عدت قادرا فالغلاء وحش يلتهم الفقراء و يكشف سترهم .
في ذلك الوقت أدركت الأم أن الحياة أصبحت مستحيلة و فشلت كل محاولاتنا في إقناعها بتخطي الأزمة ، فتركت البيت و حملت الصغيرة لولا فوق كتفها و انصرفت .
تلك كانت المرة الأخيرة التي أرى فيها أمي ففي طريقها لبيت جدي في القرية دهستها سيارة .
ذلك يوم شؤم لم أر مثله في حياتي ، بعد أن سمع والدي بخبر وفاتها ، انتابته حالة صرع و أصبح من يومها مقعدا لا يتحرك ولا يتكلم و بعد عدة أيام لحق بها .
يا أخي إني أتضور جوعا ، من الصباح لم أتناول غير برتقالة أعطتني أياها أم مروة جارتنا بعد أن اشتريت لها طلباتها من السوق وأعطتني أيضا خمسة جنيهات ، اشتريت بها نصف ساندوتش فول اقتسمته مع أختي لولا ، و معي جنيهان أعطاهم لي عم حسن بعد أن اشتريت له علبة سجائر .
كيف حال لولا هل هي بخير .
نعم ، أنها نائمة .
يا خسارة ، فقدت أجمل لحظة في يومي ، أنها تجري إلي كل يوم و تستقبلني بالأحضان ، و هذا ما يهون مصاعب الدنيا في وجهي .
= هل معك نقود تشتري لنا طعاما ، فأنا جائع يا أخي ؟
نعم معي عشرين جنيها بقشيش أعطاهم لي الأستاذ سمير مدرس الإنجليزي الذي لم ندفع له الدرس فقد كان يصلح سيارته في الورشة التي اعمل بها .
سأعمل مثلك في أي مهنة حين يكبر جسمي ، زملاؤك أنت في الصف الأول الثانوي ، أما زملائي في الصف الرابع الإبتدائي ، اليوم و أنا ألعب في الشارع بملابسي المقطعة المتسخة لمحت زميلي حسام مع والده في السيارة ، فاختبأت كي لا يراني ذلك الوغد الفاشل الذي كان يغضب و يحزن حين يصفق لي الزملاء بالفصل ، فقد كنت متفوقا عنه .
و الله يا أخي لو كنت أملك المال ، لأنفقت عليك في التعليم ، لكن راتبي الاسبوعي بالكاد يكفي إيجار الشقة و متطلباتنا .
حضن مازن أخاه ياسر و الدموع في عينيه ثم ذهبا سويا للسوق ، اشتريا القليل من الطعام ثم عادا للبيت ، فلم يجدا أختهم الصغيرة ، أين أختك يا مازن ؟
لقد كانت نائمة هنا على السرير .
يا معتوه ، إنها ليست في البيت .
صرخ في وجهه أين أختك لولا ؟
تلعثم مازن ، ورد بخوف ربما تلعب في الشارع ؟
ساد الصمت لحظات ، القلق و الخوف هما سيدا الموقف ، بدأ الصغير يبكي .
هي صامتة ما زالت تفكر هل تظل مكانها ؟ هل تتركهم يبحثون عنها ؟ المكان ضيق و مظلم سوى ضوء خافت يتسلل إليها ما عادت تحتمل أكثر من هذا .
هيا بنا نبحث عنها في الشوارع ربما خطفها أحدهم .
فجأة خرجت لولا من دلفة الدولاب و صرخت أنا هنا .
جرى إليها ياسر و ضمها في حضنه و قبلها ، و ضحكوا جميعا ثم جلسوا على الأرض و تناولوا الطعام .
كل ما أخشاه يا إخوتي أن يمر علينا يوم دون أن أعمل ، دون طعام ، دون سكن فالأيام تسوء .
التعليقات مغلقة.