الحب المثالي عند العرب تأليف: د. يوسف خليف عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
الحب المثالي عند العرب تأليف: د. يوسف خليف عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
ط. دار قباء للطبع والنشر والتوزيع ١٩٩٨م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة العامة لذلك الحب نرى فيها العاشق وقد اشتد تعلقه بصاحبته، وزاد حبه لها،وارتبطت آماله بها،بل وقفت عندها؛ لأنه رأى فيها مثله الأعلى الذي كان يرسمه في خياله، ويتمنى أن ترتبط حياته به،ولكن ظروفا ـ قد تكون اجتماعية أو اقتصادية ـ تعترض سبيل آماله وتقف في طريق أمانيه، لتحول بينه وبين هذا الرباط المقدس الذي يتمناه، فيشتد هيام العاشق وتزداد حيرته، ويسيطر خيال صاحبته عليه،ويستبد به حتى يصبح كل شئ في حياته، ثم مايزال يضغط على أعصابه المرهفة،والمرهقة أيضا حتى تنوء به وتنهار، وتتوالى سطور المأساة الحزينة بعد ذلك لتكون النهاية التي لا مفر منها، فيخط الموت السطر الأخير من المأساة، ويسقط البطل شهيد الحب وصريع الحرمان، لتلحق به بعد حين صاحبته التي عاشت بعده تسترجع ذكرياته الحزينة، وتستعيد أحزانها الباكية.
إن المتتبع للشعر العربي منذ أقدم عصوره يلاحظ أن هذا اللون من الحب قديم قدم هذا الشعر، وأن جذور هذا الحب تمتد إلى العصر الجاهلي، حيث عرف المجتمع الجاهلي طائفة من الشعراء العشاق أطلق عليهم الرواة اسم ” المتيمين ” وربطوا بين كل واحد منهم وصاحبة له، عُرف بها، وعاش لها، ومات من أجلها، ووهب حياته وفنه لحبها.. ولم تكن حياة هؤلاء المتيمين وشعرهم سوى صورة مماثلة أشد المماثلة لحياة العذريين الأمويين وشعرهم، بحيث يستحيل القول بأن هذا الحب لم يظهر إلا في أيام بني أمية، فالحياة الأموية لم تكن هي التي خلقت هذا الحب من عدم ـ على حد قول د. خليف ـ أو أوجدته لأول مرة في تاريخ العرب، وأرجع منشأها إلى البادية العربية منذ أقدم عصورها هي التي خلقته وأوجدته، ثم كانت الحياة الأموية هي التي بعثته وجددته، ونفخت فيه من روحها، فعاد خلقا جديدا كما خلقتها البادية القديمة أول مرة، ثم مضت تطبعه بطابعها الإسلامي فاكتملت له سماته المميزة، واستقرت تقاليده ومقوماته التي اكتسب معها صورته الأخيرة، وشكله النهائي الثابت، فالحب العذري ليس حبا أمويا، ولا حبا انفردت به عذرة وحدها، ولكنه حب البادية العربية في جميع عصورها.
صورتان طبيعيتان من صور الحب:
ويلتقط الدكتور خليف صورتين للحب،الأولى: حب حسي:
يفتن فيه الرجل بالمرأة من حيث هي أنثى، تحقق له المتعة واللهو وإرضاء الحواس، ولايقف حبه عند واحدة يهب لها قلبه وحبه وإخلاصه ووفاءه.
والآخر: حب روحي:
يتعلق فيه العاشق بمحبوبة واحدة، يرى فيها مثله الأعلى الذي يحقق له متعة الروح، ورضا النفس، واستقرار العاطفة، وهو استقرار يجعل فتنته بواحدة تقف عندها آماله، وتتحقق فيها كل أمانيه.
وقد عرف العرب منذ أقدم عصورهم هاتين الصورتين من صور الحب، كما عرفتها سائر الشعوب، وعملت ظروف البيئة والحضارة وما اصطلحت عليه حياتهم الاجتماعية من مُثل وتقاليد على تلوينها بألوانها الخاصة، وطبعهما بطوابعها المميزة.
ففي منتصف القرن الأول للهجرة، بعد أن استقام الأمر لبني أمية، تميزت الصورة الأخيرة بسمات معينة، واتخذت لها طابعا خاصا، اكتسبت معها ومعه اسما جديدا، فعرف باسم ” الحب العُذْري ” نسبة لقبيلة بني عذرة، وفي أرجاء البادية العربية ظهر عشاق عدوا النماذج الصحيحة لهذا الحب، والمثل العليا له بكل سماته المميزة، وطوابعه الخاصة، فأطلق عليهم اسم ” العذريين ” نسبة إلى هذا اللون من ألوان الحب، وقديما قال رجل منهم: ” لقد تركت بالحي ثلاثين قد خامرهم السل ومابهم داء إلا الحب ” وسئل آخر: ممن أنت؟ فقال: ” من قوم إذا أحبوا ماتوا” فقالت جارية سمعته: “عذري ورب الكعبة “.
ويؤكد د. خليف عدم انفراد عذرة وحدها من بين القبائل العربية بهذا اللون من الحب، وإنما ظهر أيضا في غيرها من القبائل كقبيلة بني عامر حيث ظهر مجنون ليلى” قيس بن الملوح”، وقبيلة بني كنانة حيث ظهر ” قيس بن ذريح” صاحب لبنى، فالمسألة ليست مسألة عذرة وحدها، والحب العذري ليس وقفا عليها دون غيرها من القبائل، ولكنه لون من الحب عرفته البادية العربية مع غيره من ألوان الحب المختلفة.
أما لماذا نسب هذا الحب إلى عذرة دون غيرها من القبائل؟ ففي أغلب الظن أن السبب في هذا يرجع إلى أنها هي التي مثلت هذه الظاهرة الاجتماعية أقوى تمثيل، لكثرة من عرف من عشاقها الذين رأى فيهم الرواة المثل الكاملة لهذا الحب، والنماذج الدقيقة له.. وخاصة عند جميل بثينة الذي يعد بحق أروع مثل له، وأدق نموذج عرفته البادية منه، وعروة بن حزام أيضا كان عذريا من قبيلة بني عذرة.
وأشعار هؤلاء العذريين تختلط نسبتها إلى أصحابها اختلاطا بعيد المدى، فما ينسب لأحدهم ينسب للآخر، والقصيدة الواحدة يتنازعها شعراؤهم فتنسب لأكثر من واحد، وذلك لأن موضوع هذه الأشعار جميعا موضوع واحد، والأفكار التي يعبر عنها أصحابها متشابهة إلى درجة كبيرة، ومع ذلك فإن الباحث يستطيع أن يجرد هذه الأخبار من الحواشي ليصل إلى الحقيقة المجردة الثابتة التي لا يحيط بها شك أو اتهام.
وأقدم قصص هؤلاء العذريين تاريخيا هي قصة عروة وعفراء وهما من قبيلة بني عذرة.
أحب عروة بن حزام ابنة عمه عفراء وهما صبيان، وكان عروة يعيش في بيت أبيها بعد وفاة أبيه، وربط الحب بين القلبين الصغيرين منذ طفولتهما المبكرة، وشب مع شبابهما، وتمنى عروة أن يتوج الزواج قصة حبهما الطاهر، فأرسل إلى عمه يخطب إليه عفراء، ووقف المال عقبة في طريق العاشقين، فقد غالت أسرة عفراء في المهر، وعجز عروة عن القيام به، وألح عروة على عمه، وصارحه بحب عفراء، فراح يماطله ويمنيه الوعود، ثم طلب إليه أن يضرب في الأرض لعل الحياة تقبل عليه فيعود بمهر عفراء، وينطلق عروة بحثا عن المال، ثم يعود بعد حين وقد تيسر له ماكان يسعى إليه، والأمل يداعب نفسه، ويرسم له مستقبلا سعيدا يجمع بينه وبين عفراء.. وفي أرض الوطن يخبره عمه أن عفراء قد ماتت، ويريه قبرا جديدا ويقول له إنه قبرها، وتتحطم آمال عروة، وينهار كل ماكان يبنيه لأيامه المقبلة، وترتبط حياته بهذا القبر يبثه آلامه، ويندب حظه، ويبكي حبه الضائع ومأساته الحزينة، ثم تكون المفاجأة التي لم يكن يتوقعها، لقد ترامت إليه أنباء بأن عفراء لم تمت، ولكنها تزوجت ورحل بها زوجها إلى الشام حيث يقيم، وتثور ثائرة عروة، ويصب جام غضبه على عمه الذي خدعه مرتين: خدعه حين مناه عفراء، ودفع به إلى آفاق الأرض البعيدة خلف مهرها، ثم خدعه حين لفق له قصة موتها، وتركه فريسة أحزانه ودموعه فمضى يهجوه:
فياعم يا ذا الغدر لازلت مبتلى
حليفا لهم لازم وهوان
غدرت وكان الغدر منك سجية
فألزمت قلبي دائم الخفقان
وأورثتني غما وكربا وحسرة
وأورثت عيني دائم الهملان
فلازلت ذا شوق إلى من هويته
وقلبك مقسوم بكل مكان
وينطلق عروة إلى الشام، وينزل ضيفا على زوج عفراء والزوج لا يعرفه بطبيعة الحال، ثم مازال يحتال حتى التقى بها، فيتذكران ماضيهما السعيد فوق أرض الوطن البعيدة ومافعلت بهما الأيام، وتكون شكوى، وتكون دموع، ويصمم عروة على العودة إلى وطنه حرصا على سمعة عفراء وكرامتها، واحتراما لزوجها الذي أحسن وفادته وأكرم مثواه.
وفي أرض عذرة التي شهدت رمالها السطور الأولى من قصة حبه، تكون الأدواء، والأسقام في استقباله، وتسوء حتل عروة، ويشتد عليه الضنى، ويستبد به الهزال، ويلح عليه الإغماء والخفقان، ويأخذه مرض السل حتى لا يبقى منه شيئا، ويعجز الطب عن علاجه، ولا يجد عروة إلا شعره يفزع إليه ليبثه آلامه وأحزانه، ويصور فيه مايلح على نفسه من أشواق وحنين يقول:
تحملت من عفراء ماليس لي به
ولا للجبال الراسيات يدان
كأن قطاة غُلّقت بحناحها
على كبدي من شدة الخفقان
جعلت لعراف اليمامة حُكمه
وعراف نجد إن هما شفياني
فقالا: نعم نشفي من الداء كله
وقاما مع العوَّاد يبتدران
فما تركا من رقية يعلمانها
ولا سلوة إلا وقد سقياني
وما شفيا الداء الذي بي كله
ولا ذخرا نصحا ولا ألواني
فقالا: شفاك الله، والله مالنا
بما ضمنت منك الضلوع يدان
فويلي على عفراء ويلا كأنه
على الصدر والأحشاء حد سنان
ثم تكون نهاية المأساة، فيسدل الموت على العاشقين ستار ختام، فيموت عروة، ويبلغ النبأ عفراء، فيشتد جزعها عليه، وتذوب نفسها حسرات وراءه، وتظل تندبه وتبكيه حتى يطويها الموت بعده بقليل. ويأبى خيال القُصّاص إلا أن يجمع بينهما بعد الموت، فقد دفنت عفراء إلى جانب قبر عروة، ومن القبرين تنبت شجرتان غريبتان لم ير الناس مثلهما من قبل، تظلان تنموان حتى تلتف إحداهما على الأخرى، تحقيقا لأمل قديم حالت الحياة دون تحقيقه، وأبى الموت إلا أن يحققه.
هذه أقدم قصة وصلت إلينا من قصص الحب العذري في العصر الأموي، وهي تمثل ـ بحق ـ المعالم الأساسية، والملامح المميزة لكل القصص العذري.
فالصورة العامة للحب العذري تتلخص في أنه حب روحي يأخذ شكل مأساة حزينة، بدايتها أمل، ونهايتها يأس، تدور أحداثها بين عاشقين تسيطر على حبهما العفة والإخلاص والتوحيد والحرمان، وليس معنى هذا أنه حب يلغي الجسد إلغاء تاما، فإن ذلك لا يتفق مع طبيعة الحياة، ولايستقيم مع واقع الصلة بين العواطف والغرائز في الطبيعة البشرية، والأمر الذي لاشك فيه هو أن حب الجسد دافع من الدوافع إلى هذا الحب، كما أنه هدف من أهدافه، لأنه بدون هذا الدافع، ومن غير هذا الهدف، لا يمكن لعاطفة حب بين رجل وامرأة أن تقوم.
وينهي د. خليف بحثه بالتأكيد على أن ظهور مدرسة “العذريين” في العصر الأموي لم يكن بالظاهرة الغريبة التي تستدعي البحث عن أسبابها، فهي امتداد لمدرسة “المتيمين” القديمة في العصر الجاهلي.
التعليقات مغلقة.