الخليفة المأمون “أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد” سابع خلفاء بني العباس على مر التاريخ
اعتلى مقاعد الحكم أشخاص اختلفت فيهم آراء المؤرخين وعلى رأسهم الخليفة المأمون، وأرى أن المأمون كانت له عقيدة فكرية (أيديولوجية) خاصة به لا تنتمي لأي أيديولوجية عرفناها قديمًا أو حديثًا في نسقه الفكري، فهو على طرفي النقيض في الغلو،
متقلب تبعًا لحالته الإقناعية والمزاجية، له قدرة سحرية في السيطرة على القلوب والعقول، عادل وعطوف، ظالم وقد يصل الأمر لقتل من يخالفه، محبا للعلم والأدب والفنون يقرب العلماء من مجالسه وينفق عليهم ببذخ ثم ينقلب عليهم ويفرط في عقابهم، يجيد الاستماع والعدول عن الخطأ .
ولد المأمون عام ١٧٠ هـ وتوفى عام ٢١٨ هـ في إحدى غزواته للإمبراطورية البيزنطية على أثر إصابته بالحمى على نهر البدندون في آسيا الصغرى ودفن في طرسوس (طرسوس مدينة في جنوب تركية على ساحل البحر الأبيض المتوسط)، وكان عمره عند موته ٤٨ سنة وقد حكم تسعة عشر عامًا، تولي الخلافة بعد مقتل أخيه الأمين عام ١٨٩ هـ.
الخلاف بين الأمين والمأمون:
لم يستقر الأمر بين الأخوين على ما أراد الرشيد، فقد أوغرت بطانة كل منهما صدر الأخ على أخيه، كان الرشيد قد أعلن ولاية العهد للأمين في سنة ١٧٥ هجرية، وسِنُّ الأمين فيما قيل وقتئذٍ خمس سنين، ثم أشرك معه المأمون في ولاية العهد سنة ١٨٣ هجرية والمأمون يكبر الأمين بستة أشهر، ثم أستوثق لكليهما من أخيه سنة ١٨٦ هجرية، وهو عام حج الرشيد، ولإعطاء الوصية قدسية قام هارون بتعليقها بالكعبة.
كانت الوصية تنص على أن يترك الأمين للمأمون كل بلاد المشرق، بجندها وخراجها، لا تربط المأمون بحاضرة الخلافة إلا رابطة الدعاء للخليفة على المنابر.
(كان الرشيد قد أشرك في سنة ١٨٨ هجرية ولده القاسم مع أخويه في ولاية العهد، وجعل من نصيبه العمل على الشام وقنسرين والعواصم والثغور).
خلع الأمين أخوه المأمون من ولاية العهد، وأخذ البيعة لابنه (موسى الناطق بالحق)، كان المأمون موجودا في خراسان واليًا عليها فأخذ البيعة لنفسه من أهل خراسان، وأصبح في الدولة تياران متصارعان تيار عربي يمثله الأمين (أمه من أصول عربية تدعى زبيدة بنت جعفر) ووزيره الفضل بن الربيع، وتيار فارسي على رأسه المأمون (أمه فارسية تدعى مراجل الباذغيسية) ووزيره الفضل بن سهل، فشلت المفاوضات بين الطرفين، وانتهى الأمر بينهما بالحرب اعتبارًا من عام ١٩٥ هـ، وانتهت الحرب بهزيمة الأمين ومقتله سنة ١٩٨هـ.
مقتل الأمين:
بعد حصار بغداد، نفد الطعام من المدينة فاشتد الجوع بالأهالي وصرف الأمين كل ما لديه من أموال على جنوده، فاضطر إلى طلب الأمان والتسليم، وخرج وأتباعه عابري نهر دجلة في سفينة صغيرة لم تلبث أن انقلبت واستطاع الأمين أن يسبح إلى الشاطئ حيث أسره جنود المأمون وقتلوه بأمر من القائد طاهر بن الحسين وبذلك انتهت خلافته، وتولى المأمون الخلافة.
يقول المؤرخون إن المأمون كان متقلب المزاج الفكري والعقائدي فكان يميل إلى الفرس ويقربهم إليه تارة ثم ينقلب بميله إلى العلويين تارة، ثم يعود فيميل إلى أهل السنة تارة أخرى. وأرى أن سلوك المأمون كان عَبْقَرِيًّا فقد ضمن ولاء الجميع، وأرى أنه كان يهدف للتقريب بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم مما يقوي الدولة الإسلامية، حتى أنه في فترة من الفترات بايع والد زوجته أم الحبيب على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق وهو الإمام الثامن عند الشيعة الأمامية الاثني عشرية في ولاية العهد من بعده ولم يتراجع إلا بعد رفض أهل العراق خروج الخلافة من بيت العباسيين.
ونادى المأمون بإباحة زواج المتعة المعترف به لدى المذهب الشيعي، وعاد وحرمه بعد أن ذكر له يحيا بن أكثم أقوال الصحابة بتحريمه .
كان المأمون منبهرا بصفة خاصة بعلوم اليونان وقد أسس أول جامعة علمية كبيرة في بغداد وأسماها بيت الحكمة، وأرسل بعثات من العلماء إلى قبرص والقسطنطينية فنقبوا في كتب هذه الحضارة ونقلوا الكثير منها واهتم بجميع العلوم من طب ورياضيات وفلك وفلسفة وترجمت في عهده العلوم والآداب اليونانية والفارسية والسريانية إلى العربية فحولها من لغة شعر إلى لغة علم وفلسفة، وقرب العلماء من جميع التخصصات علاوة على علماء الدين وشجع المناظرات الكلامية بينهم والبحث العقلي في المسائل الدينية، وأمر بإنشاء أول المراصد الفلكية التخصصية في بغداد ودمشق وأرسل بعثات من العلماء لإجراء التجارب العلمية، وحاول تعلم اللغات الغير العربية، وتم اختراع الأسطرلاب في عهده (الأسطرلاب هو آلة فلكية قديمة وأطلق عليه العرب ذات الصفائح)، وهو نموذج ثنائي البعد للقبة السماوية، والعلماء في عصره هم أول من قالوا بكروية الأرض، وأمر فريق من العلماء بصنع خريطة للعالم صورا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحر.
كان المأمون يحب العفو حتى أنه قال:
ـ أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه. وما يدل على عفوه أنه بعد فتحه للحصون البيزنطية اشترى السبي بستة وخمسين ألف دينار ثم خلى سبيلهم، وعفا عن عمه إبراهيم بن المهدي بعد أن ادعى الخلافة لنفسه، وقد قال إبراهيم بن المهدي:
ـ والله ما عفا عنّي المأمون تقربًا إلى الله تعالى، ولا صلة للرب ولكن له سوقا في العفو يكره أن تكسد بقتلي.
وكان عادلًا وقد شكت له امرأة ظلم ولده العباس فأحضره وأجلسه إلى جانب المرأة في مجلس الخصوم، ثم قضي لها برد ضيعتها التي اغتصبها ولده، وكتب إلى عامله ببلدها أن يرد لها ضيعتها ويحسن معاونتها، ثم أمر لها بنفقة.
إلا أن بعض المؤرخين قالوا إن المأمون لم يحس بأحوال الفقراء، ولم يظهر كرمه وعطاؤه وجوده إلا مع الشعراء والقادة، والمادحين له.
كان المأمون حافظا للقرآن الكريم وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدثين، وبرع في الفقه واللغة العربية والتاريخ، وكان يعد من كبار العلماء.
أخطر ما حدث في عهد المأمون تبنيه لفتنة خلق القرآن الكريم ولم يرجع عنها، وهذه الفتنة انفرد بها المعتزلة؛ وهم فرقة كلامية تتبع المذهب السني ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري( ٨٠هـ ـ ١٣١هـ ) في البصرة ؛ وكتب إلى نوابه كتابا ليمتحنوا العلماء، وسجن من يخالفه ووصل الأمر لقتل بعضهم، وقد عانى الكثير من العلماء في هذه الفتنة واضطر بعضهم جبنًا وخوفًا للقول بخلق القرآن ومنهم علي سبيل المثال لا الحصر إمام الدمشقيين أبا مسهر، محمد بن سعد، وابن معين، وأبي خيثمة، وأبي مسلم المستولي، وإسماعيل بن داود، وأحمد الدورقية، ولما رأى المأمون معارضة أهل مصر والشام للقول بخلق القرآن استعمل عليهم أخوه المعتصم، فقتل طائفة من الذين يعارضون قول خلق القرآن، وامتنع آخرون أمثال الإمام أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد، وأبي حسان الزيادي، والقواريري، وسجادة، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وعلي بن أبي مقاتل، وذيلي بن الهيثم، وقتيبة بن سعيد، وسعودية، فأمر المأمون بإحضارهم إليه في طرسوس ولكن القدر أنقذهم من يد المأمون فقد مات قبل أن يصلوا لطرسوس.
وقد اعتمدت المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي، والمأمون من أكبر علمائهم،
وقد نشط في عهد المأمون جماعة أخوان الصفا وخلان ألوفا وهم جماعة من الفلاسفة اتحدوا على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة في ذلك العهد فكتبوا في ذلك خمسين مقالة سموها (تحف إخوان الصفا).
ومن أقوال العلماء في المأمون:
ـ إمام ومحدث نحوي لغوي،
ــ من عظماء الخلفاء ومن عقلاء الرجال وله اختراعات كثيرة في مملكته.
ـ أول من لخص علوم الحكمة وحصل كتبها وأمر بنقلها إلى العربية، ونظر في علوم الأوائل وتكلم في الطب وقرب أهل الحكمة .
ويعلق المستشرق الإسكتلندي موير عن عصر المأمون بقوله:
إن عصر خلافته كان من أزهى عصور التاريخ الإسلامي.
بقلم: سيد جعيتم جمهورية مصر العربية
المراجع:
الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (دار سويدان، بيروت 1386هـ/1966م)
. – ابن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية (دار بيروت للطباعة والنشر، 1400هـ/1980م).
ـوالبداية والنهاية لأبن كثير( الجزء العاشر) –
ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي
التعليقات مغلقة.