الدكروري يتكلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص
بقلم / محمـــد الدكــــرورى
عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي، وكنيته أبو عبد الرحمن، وأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج السهمي. يقال: كان اسمه العاص، فغيّره النبي ، وقد أسلم قبل أبيه ولم يكن بين مولدهما إلا اثنتا عشرة سنة ، استأذن النبي في كتابة ما يسمع منه، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له الرسول الكريم أنت عبد الله بن عمرو .
فهو القانتـ التائبـ ، العابد، الأواب ، هو عبدالله بن عمرو بن العاص ، وكان أبوه أستاذا في الذكاء والدهاء وسعة الحيلة ، وكان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين ، الواضحين ، ولقد أعطى العبادة وقته كله ، وحياته كلها ، ولقد سبق أباه إلى الإسلام، ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مبايعا ، وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته.
وقد عكف أولا على القرآن الكريم الذي كان يتنزل منجّما ، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها ، حتى إذا تمّ واكتمل ، كان لجميعه حافظا ، ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية ، تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا ، بل كان يحفظه ليعمر به قلبه ، وليكون بعد هذا عبده المطيع ، يحلّ ما أحلّ ، ويحرّم ما يحرّم ، ويجيب له في كل ما يدعو إليه ثم يعكف على قراءته ، وتدبّره وترتيله ، متأنقا في روضاته اليانعات ، محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة ، باكي العين بما تثيره من خشية.
وكان عبدالله قد خلق ليكون قد ، قدّيسا عابدا، ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له ، وهدي إليه ، وكان إذا خرج جيش الإسلام إلى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب والعداوة ، وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب ، والحاح عاشق.
فإذا وضعت الحرب أوزارها ، فأين نراه ؟ هناك في المسجد الجامع ، أو في مسجد داره صائم نهاره، قائم ليله ، لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا، إنما هو رطب دائما بذكر الله ، تاليا قرآنه ، أو مسبّحا بحمده ، أو مستغفرا لذنبه ، ولقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة.
وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر إلى الفجر في عبادة موصولة ، صيام وصلاة، وتلاوة قرآن ، فاستدعاه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إليه وراح يدعوه إلى القصد في عبادته ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
” ألم اخبر أنك تصوم الناهر ، ولا تفطر ، وتصلي الليل لا تنام ، فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ” قال عبدالله: إني أطيق أكثر من ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
” فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين ” قال عبدالله: فاني أطيق أكثر من ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فهل لك إذن في خير الصيام ، صيام داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ” .
وعاد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا: ” وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
واني أخشى أن يطول بك العمر ، وأن تملّ قراءته ، اقرأه في كل شهر مرّة ، اقرأه في كل عشرة أيام مرّة ، اقرأه في كل ثلاث مرّة ، ثم قال له: إني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي ، فليس مني”.
ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا ، ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول: ” يا ليتني قبلت رخصة رسول الله” وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم
” افعل ما أمرتك ، وأطع أباك”.
وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام ، ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا ، ورفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع ، وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين ، ومضت موقعة الجمل ، وجاءت موقعة صفين ، وكان عمر بن العاص قد اختار طريقه إلى جوار معاوية وكان يدرك مدى إجلال المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه، فأراد أن يحمله على الخروج ليكسب جانب معاوية بذلك الخروج كثيرا.
كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبدالله إلى جواره في قتال، وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام ، ويوم اليرموك ، فحين همّ بالخروج إلى صفين دعاه إليه وقال له:
يا عبدالله تهيأ للخروج ، فانك ستقاتل معنا ، وأجابه عبدالله ” كيف وقد عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا..؟؟
وحاول عمرو بدهائه إقناعه بأنهم إنما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا إلى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ ، ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده ” أتذكر يا عبدالله ، آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟
فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل” وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه ، وفي عزمه ألا يحمل سيفا ولا يقاتل مسلما.
ولكن كيف يتم له هذا..؟؟ وحسبه الآن أن يخرج مع أبيه ، أما حين تكون المعركة فلله ساعتئذ أمر يقضيه ، ونشب القتال حاميا ضاريا ، ويختلف المؤرخون فيما إذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا ، لأن القتال لم يلبث إلا قليلا ، حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب ، وضدّ معاوية.
وذلك إن عمّار بن ياسر كان يقاتل مع عليّ وكان عمّار موضع إجلال مطلق من أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأكثر من هذا ، فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله ،
وكان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم إليها ، وكانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد ، ولكن عمارا من فرط غبطته ونشوته ، راح يحمل حجرين حجرين ، وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال: ” ويح ابن سميّة ، تقتله الفئة الباغية”.
وسمع كل أصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة ، ولا يزالون لها ذاكرين ، وكان عبدالله بن عمر أحد الذين سمعوا ، وقد بدء القتال بين جماعة عليّ وجماعة معاوية ، وكان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى صوته ويصيح ” اليوم نلقى الأحبة, محمدا وصحبه” وتواصى بقتله جماعة من جيش معاوية، فسددوا نحوه رمية آثمة ، نقلته إلى عالم الشهداء الأبرار.
وسرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل ، وانقضّ عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا: أوقد قتل عمار؟ وأنتم قاتلوه ؟ إذن انتم الفئة الباغية ، وأنتم المقاتلون على ضلالة ، وانطلق في جيش معاوية كالنذير ، يثبط عزائمهم ، ويهتف فيهم أنهم بغاة ، لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..
وحملت مقالة عبدالله إلى معاوية, ودعا عمرا وولده عبدالله, وقال لعمرو: ” ألا تكف عنا مجنونك هذا..؟ قال عبدالله: ما أنا بمجنون ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية ، فقال له معاوية: فلم خرجت معنا:؟ قال عبدالله: لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي ، وقد أطعته في الخروج ، ولكني لا أقاتل معكم.
وإذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول ، فصاح عبدالله بن عمرو: ‘ئذن له وبشره بالنار ، وأفلتت مغايظ معاوية على الرغم من طول أناته ، وسعة حلمه ، وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول ، وعاد عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم ، يؤكد لمعاوية أنه ما قال إلا الحق ، وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا إلا بغاة..
والتفت صوب أبيه وقال: لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير ، وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما ، فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار: تقتلك الفئة الباغية ، وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول إلى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه ، ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس.
قالا: نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم ، تقتلك الفئة الباغية ، ونبوءة الرسول حق ، وها هو ذا عمار قد قتل ، فمن قتله..؟؟ إنما قتله الذين خرجوا به ، وحملوه معهم إلى القتال ” وفي مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج, وهكذا راج منطق معاوية وعمرو ، واستأنف الفريقان القتال.
وتُوُفي عبد الله بن عمرو بن العاص سنة خمس وستين من الهجرة، وكان أصغر من أبيه باثنتي عشرة سنة ، وكان دينًا صالحًا كثير العلم رفيع القدر، يلوم أباه على القيام في الفتنة، ويطيعه للأبوة ، وقد روي عن عقيل بن خالد وغيره عن عمرو بن شعيب نحوه ، وثبت عن عمرو بن دينار ، عن وهب بن منبه ، عن أخيه همام ، سمع أبا هريرة يقول : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب .
وكان من أقوال عبد الله بن عمرو ، أنه قال ينبغي لحامل القرآن ألاّ يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن ، لأن في جوفه كلام الله تعالى ، وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات، ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار.
وينبغي له أن يتواضع للفقراء، ويتجنب التكبر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها، إنْ خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب ، وينبغي له أن يكون ممن يؤمن شره، ويرجى خيره، ويسلم من ضره، وألاّ يسمع ممن نمّ عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه.
وينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده، وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ، ويعمل بما يتلو، فما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم ما يتلو ، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه، فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
وينبغي له أن يعرف المكي من المدني ، ليفرق بذلك بين ما خاطب الله به عباده في أول الإسلام وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أول الإسلام، وما زاد عليه من الفرائض في آخره، فالمدني هو الناسخ للمكي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني ، لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل الناسخ له، ومن كماله أن يعرف الإعراب والغريب؛ فذلك مما يسهل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشك فيما يتلو.
التعليقات مغلقة.