الدنيا الفانية لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
في ظل الاهتمامات الواسعة ، والأبعاد الشاسعة ، لرغبات الأفراد والجماعات ، من المسلمين والمسلمات ، بما يحقق لهم عيشا حميدا ، ورزقا رغيدا ، على أُسس غير سليمة ، وتحقيق نتائج سقيمة ، كان لابد من التذكير بأمر مهم ، نسيه جمهور جم ، ألا وهو تلكم النهاية التي لابد لكل حي منها ، إنها الموت ، نعم الموت ، ذلكم الزائر ، الذي لا يفوته مطلوب ، ولا يهرب منه مرغوب ، مفرق الجماعات ، وهادم اللذات ، وكاسر الشهوات ، وهالك الرغبات .
فالدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل ، نعم إنها الدنيا ، ظل زائل، وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحها يؤول إلى ترح، وهيهات أن يدوم بها قرار .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من كانت الدنيا همه ، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ،ومن كانت الأخره نيته ، جمع الله له أمره، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدنيا وهى راغمه ” رواه ابن ماجة .
وتلك سنة الله عز وجل في خلقه، أيام يداولها بين الناس، ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وإنما هي منازل، فراحل ونازل، وهي بزينتها وبريقها ونعيمها ، والسعيد من اعتبر بأمسه، واستظهر لنفسه، والشقي من جمع لغيره، وبَخَلَ على نفسه.
ويجب على كل إنسان أن يتذكر ليلتانِ اثنتان يجعلهما كلُ مسلمٍ في مخيلته ، ليلة وهو في بيته مع أطفاله وأهله ، منعماً سعيداً ، في عيشٍ رغيد ، وخير مديد ، في صحة وعافية ، يضاحكُ أطفاله ويضاحكونه ، نسي الموت وسكرته ، والقبر وضمته ، ثم الليلةُ التي تليها مباشرةً ، ليلةٌ أتاه الموت ، فوضع في القبر لأول مرة .
لقد كان النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، يتخوف مِن فتحِ الدنيا على أمّته، يخاف عليهم الافتتانَ بها ، فعن عمرو بن عوفٍ أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، قال للأنصارِ لما جاءَه مال من البَحرين: ” أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كانَ قبلَكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، وتهلِككم كما أهلكتهم” رواه البخاري .
نعم إنها الدنيا ، حلالُها حساب، وحرامها عقاب، المكدود فيها شقي إن ظفر، ومحروم إن خاب، إن أخذ مالها من حله حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن أحبها أذلّته، ومن تبعها أعمته ، فليس لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت .
وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه قال ، اضطجَع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على حصيرٍ فأثّر في جَنبه، فقيل له: ألاَ نأتيكَ بشيء يقيكَ منه؟ فقال: “ما لي وللدّنيا؟ إنّما أنا والدّنيا كرَاكبٍ استظَلّ تحتَ شجرةٍ ثمّ راحَ وترَكها” رواه البخاري .
هى الدنيا ، ليست بدار قرار، فكتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الظعن، فالركون إليها خطَر، والثقة بها غَرر، كثيرة التغيير، سريعة التنكير، شديدة المكر، دائمة الغدر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، عيشها نكَد، وصفوها كدَر، والمرء منها على خطَر، إما نعمة زائلة، أو بليةٌ نازلة، أو مصيبة موجعة، أو ميتةٌ قاضية .
فيا أيها المغرور بالدنيا ، ألم تسمع قول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال ” أعمار أمتى ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك ” رواه الترمذي .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذكَّر الدنيا، نتذكَّرُ الفقرَ ونتخوَّفُه، فقال: “آلفقرَ تخافُون؟ والذي نفسي بيده ، لتُصبَّنَّ عليكم الدنيا صبًّا، حتى لا يزيغَ قلبَ أحدكم إزاغةً إلا هي” أي: إلا هذه الحياة، “وايْمُ الله ، لقد تركتُكم على مثل البيضاء، ليلُها ونهارُها سواء”.
الدنيا ما هي إلا أيام معدودة، وآجال مكتوبة، وأنفاس محدودة، وأعمال مشهودة، إن أضحكت قليلاً، أبكت كثيراً، وإن سرّت يوماً، ساءت أشهراً وأعواماً، وإن متعت قليلاً، منعت طويلاً، وما حَصَّلَت للعبد فيها سروراً، إلا خبّأت له شروراً، ولا ملأت بيتاً فرحاً، إلا ملأته ترحاً وحزناً ، فالعاقل لا ينخدع بها، بل يعتبر بمن مضى من الأمم السابقة، والقرون الماضية، كيف عفَت آثارُهم، واضمحلت أنباؤهم.
فكم ذهب لأجلها من نفوس؟ وكم تطاير من رؤوس؟ وكم سُحق من جماجم؟ وكم أُريق من دماء؟ وكم شُرّد من أناس؟ وكم عُذب مـن أقوام؟ وما ارتقى المسلمون إلا حينما تجافوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة، وما خُفِضت رؤوسهم، ونُكّست أعلامهم، وذهبت عزتهم، إلا حينما رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فأقبلوا عليها، وتنافسوا فيها، وتركوا الجهاد، وأكلوا الربا، وأخذوا بأذناب البقر.
والإنسان إن لم يؤمن بالآخرة هناك نتيجتان خطيرتان ، الأولى أنه يخرج عن الصراط المستقيم ، لا يبالي من أين يكسب المال ، ولا يبالي كيف ينفقه ، ولا يبالي أكان استمتاعه بالشهوات التي أودعها الله فيه وفق المنهج الإلهي ، أم خلاف المنهج الإلهي ، وإذا لم يؤمن بالآخرة ، لم يدخلها في حساباته اليومية ، ولم يدخلها في كل حركة وسكنة ، في كل منع وعطاء ، وفي كل موقف ، وإن لم يدخل الآخرة في حساباته اليومية لابد من أن يخرج عن الصراط المستقيم .
ومادامت الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، ومادامت تكاثراً في الأموال والأولاد ، وتفاخراً فيما بين الناس ، هذا هو المرض ، فما هو الدواء ؟ فالمنهج المتكامل هو المنهج الذي يضع البديل ، وإذا كان إقبال الناس على الدنيا إقبال على زينتها ، وإذا كانوا يلهون بها ، إذا تفاخروا فيها ، وإذا تكاثروا بالأموال والأولاد ، وهذا هو تشخيص المرض ، فما هو الدواء ؟
وإذا اعتقد الإنسان وهماً أن الدنيا كل شيء ، وأنه من كان فيها غنياً فقد ربح ، ومن كان فيها فقيراً فقد خسر وانتهى كل شيء ، فمن نتائج هذا التوهم أن ينكب على الدنيا ويدفع الثمن مهما يكن باهظاً ، وحينما يؤمن الإنسان أنه خُلق لحياة أبدية ، أنه خلق لجنة عرضها السموات والأرض ، وأن هذه الدنيا تمهيد لهذه الجنة .
وهي دار يمر فيها الإنسان إلى الآخرة وليست دار مقر ، فالإنسان حينما يؤمن أن الآخرة هي كل شيء ، وحينما ينقل اهتماماته إلى الآخرة ، وحينما ينقل أهدافه إلى الآخرة ، عندئذ لا تغدو الدنيا في نظره لا لهواً ، ولا زينةً ، ولا تكاثراً ، ولا تفاخراً .
فالحل إذا هو ، من أجل أن نبتعد عن أن نلهو بالخسيس عن النفيس ، ومن أجل أن نبتعد عن الأعمال العابثة في الدنيا التي لا طائل منها ، ومن أجل ألا نتفاخر في حطام الدنيا ، ومن أجل ألا نتكاثر في الأموال والأولاد ، علينا أن نؤمن بالآخرة ، ألا فاذكروا هول المطلعَ ، وشدة المفظع ، وبؤس المضجع ، كفى بالموت للقلوب مقطعاً ، وللعيون مبكياً ، وللذات هادماً ، وللجماعات مفرقاً ، وللأماني قاطعاً .
التعليقات مغلقة.