الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة عرض وتقديم : حاتم السيد مصيلحي
إبن بسام وكتابه ( الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة )
عرض وتقديم : حاتم السيد مصيلحي
ابن بسام حياته وعصره:
١- اسمه ولقبه : هو أبو الحسن على بن بسام الشنتريني الأندلسي، نسبته إلى شنترين المسماه اليوم (santarem) في البرتغال، وهي بلدة في الكور الغربية البحرية من أعمال بطليوس، ومن ثم يقال له الشنتريني، ومن مؤخري الأندلس من يقول الشنتمري – وهذا يعد خلطا وقع فيه بعض المؤرخين المحدثين – نسبة إلى بلدة الأندلس في الشمال الشرقي لقرطبة، يقال لها (شنت مرية) أي مريم المقدسة، وفي هذه البلدة يقول الأديب النحوي : أبو محمد بن السيد البطليوس:
تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم..
وحفت بنا من معضل الخطب ألوان
أناخت بنا في أرض شنت مرية
وهواجس ظن خان والظن خوان
رحلنا سوام الحمد عنها لغيرها
فلا ماؤها صدا ولا البنت سعدان
٢- حياته :
لم تعن كتب التراجم بحياة ابن بسام كثيرا، فكأن كتابه ( الذخيرة) أغناهم عن أخباره، فقد كان أديبا من الكتاب الوزراء، عاصر أواخر القرن الخامس، وفترة طويلة من القرن السادس، وتوفي سنة ( ٥٤٢ – ١١٤٧م) أي عاصر زمن الملثمين يوسف بن تاشفين وأولاده، وامتدت حياته إلى أيام أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي رأس دولة الموحدين.
وقد تنقل ابن بسام في البلاد واستوطن إشبيلية، ويظهر أنه لازمها طويلا، حتى شك ابن سعيد في الرايات، فقال : “كان مستوطنا إشبيلية وأظنه منها”.
٣- عصره :
في ذلك العصر الذى عاش فيه ابن بسام أو على مشارفه انفرط عقد الأندلس، وتفرق شمله، وتوزعته دويلات أشتات، فضعف أمره سياسيا، وسار القهقرى أمام تقدم النصارى، وضاع في نهاية الأمر، وكان الفقهاء في الأندلس أضيق الناس بما يجري في جنات شبه الجزيرة، رأوا في الترف الغالي انحلالا يميت روح المقاومة في بلد يتخطفه العدو من كل جانب، وفي الفرقة والخلاف والتخاذل تبديدا لقواه وتضييعا لأمره، وكان مايجري داخل بيوت الأمراء والكبار مما لا يرضى عنه الدين وتأباه قواعد الشريعة.
وكانت الحضارة قد أناخت على البلد لا بخيرها فقط، وإنما بكل آثامها أيضا، من حب للمال وحرص عليه، وإغراق في الإثم ومجاهرة به، وتحلل من التقاليد، وتخفف من الوقار، فاستعان الأمراء على بعضهم البعض بخصوم لهم في الدين والوطن، وتآمر الأبناء على آبائهم، وذبح الخلفاء فلذات أكبادهم، ودفع الأمراء الجزية لخصومهم من النصارى، وبعض هذا الخلاف كان طابع العصر، لكنه يعكس ملامح مجتمع ضائع.
وفي ظل هذه الظروف العصبية لم يجد خيرة فقهاء الأندلس من مفر سوى اللجوء إلى يوسف بن تاشفين يستحثوه إنقاذ الأندلس مما أصابها ومما يوشك أن يطبق عليها، ولم يخيّب ابن تاشفين لمستنجديه أملا، فعبر المضيق إلى الأندلس، وأنقذ الإسلام على بطحاء شبه الجزيرة من هزيمة محققة، وحولها إلى انتصار ساحق في وقعة الزلاقة في ٢٣ من أكتوبر عام ١٠٨٦م،ومحا جيش ألفونسو السادس محوا، وجرح ألفونسو نفسه، وكان يمكن ليوسف أن يمضي بالنصر إلى غايته فيلاحق عدوه، ويهاجمه في عقر داره، لكن أخبارا حملها البريد بموت ابنه، فعاد من فوره مما مكن ألفونسو السادس أن يسترد أنفاسه اللاهثة، ويستجمع بقايا قواه المبعثرة.
لكن إمبراطورية المرابطين الفتية الشابة، لم تلبث أن تعرضت لأمراض الجماعات وداء الدول، فأصابها ما أصاب دويلات ملوك الطوائف قبلها، ووقعوا فيما عابوه على أسلافهم.
وقدر لابن بسام أن يشهد شيخا معمرا سقوط إمبراطورية المرابطين، وقيام دولة الموحدين واستيلائهم على مراكش في المغرب، و إشبيلية في الأندلس، وأن يشهد مع هذا التحول سقوط شنترين وطنه في يد ألفونسو السادس من جديد، و استقلال ابن مردنيش ببلنسيه، واحتلال النصارى للمرية .
وكان أدب العصر الذي عاشه ابن بسام بطبيعة الحال انعكاسا صادقا لحياة أهله بكل مافيها من تناقضات، فمع الضعف الذي كان يتهدده سياسيا، كان من أزهى عصور الأدب والثقافة بشتى فروعها.
٤- مؤلفاته :
لا نعرف لابن بسام فيما هو موجود من كتب، ولم تذكر المصادر التي بين أيدينا في ذكرها سوى كتابه الأشهر ” الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” ولكنه ذكر في معرض كتابه أربعة كتب أخرى جارية على نمط الذخيرة كما يبدو، فكلها لا حقة بكتب التراجم والمختارات، وقد نص عند ذكر أحدها أنه أفردها بتأليف خاص حين ضاق “الذخيرة” عن استيعابه، وهذه الكتب متضمنة كتابه المشهور عنه وهي :
ا- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة.
٢- الاعتماد على ماصح من شعر المعتمد بن عباد٣- الإكليل المشتل على شعر عبد الجليل.
٤- سلك الجواهر في نوادر ترسيل ابن طاهر. ب
٥- الاختيار من أشعار ذي الوزارتين أبي بكر بن عمار.
٦- وقيل له مقامات، وهي ثلاثون مقامة.
٥- كتاب الذخيرة :
أ- موضوعه : سمى ابن بسام كتابه ” الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” وضمنه ١٥٤ ترجمة مسهبة لأعيان الأدب والسياسة ممن عاصرهم أو تقدموه قليلا من بُعيد الدولة المروانية إلى عصره، فهو صلة لكتب سلفت في الدولتين المروانية والعامرية؛ لأن ابن الفرج الجيّاني كتب في أولئك “كتاب الحدائق” فأغنى عن الإعادة.
وقد دفع صاحبه إلى تأليفه أمران :
أحدهما : حبه لوطنه الأندلسي، وحرصه على أن يثبت لها تفوقها في الأدب والعلم، وأن يثبت هذا التفوق لمعاصريه، خاصة كثرة مارأى من افتتان الناس من أهل أفقه بالشرق، وأدبائه وعلمائه، وإعراضهم عن الأندلس وما أنتجت من أدب وعلم.
والثاني: حرصه على تقليد الثعالبي في كتابه اليتيمة الذي صور فيه أدب معاصريه من الشعراء والكتاب.. ويعد كتاب الذخيرة أصل من أصول الأدب العربي والأندلسي ومرجع من أهم مراجعه.
ب- منهجه : بسط ابن بسام منهجه الذي اعتمده في مقدمة (كتاب الذخيرة) حيث اعتنى بالشعر والنثر على حد سواء، ولم يقطع الرسالة أو القصيدة عن خبرها، وانتقل من الجد إلى الهزل لتنشيط القارئ وبعث همته، وبين من البداية أنه كتاب للخبر لا لتفسيره أو الحكم عليه، وقال إنه سيترك الأحكام على من يورده لأهل الخبرة، وقد أدخل ابن بسام كتابه حيز الدراسات النقدية والبلاغية من وجهين :
الأول : مانقله عن الأدباء والنقاد من أحكام وآراء وماصدر عنه شخصيا من ملاحظات وموازنات وإشارات متطاولة إلى السرقات الأدبية.
الثاني: متابعة بعض وجوه البديع سواء بتقرير بعض الملاحظات أو التطبيقات على مابين يديه من أثر أدبي، وقد أعلى من شأن البديع وجعله مدار محاسن الشعر – على حد قول الدكتور الداية – مستشهدا بقوله : “… لكن ربما ألمحت ببعض القول بين ذكر أجريه ووجه عذراء أُريه، لاسيما أنواع البديع الذي هو قميم الأشعار وقوامها، وبه يعرف تفاضلها وتباينها، فلابد أن نشير إليه وننبه عليه، ونكل الأمر في كل مانثبته، ونرد الحكم في كل مانورده إلى نقد النقدة المهرة، وتمبيز الكتبة الشعرة، الذين هم رؤساء الكلام، وصيارفة النثار والنظام… ” وقد قسم ابن بسام كتابه أربعة أقسام، كما قسم الثعالبي (ت ٤٢٩هجرية) كتابه، وهو يقسمه باعتبار الأقاليم كما قسم الثعالبي كتابه باعتبار الأقاليم.
فقسم لقرطبة ومايصابقها في وسط الأندلس.
وقسم لإشبيلية ومايصابقها من غرب الأندلس.
وقسم لبلنسية ومايليها من شرق الأندلس.
وقسم آخر للملمين بالأندلس والطارئين عليها من أهل الشرق عامة ومن أهل إفريقيا بنوع خاص.
وهو يصطنع مااصطنعه الثعالبي من السجع والتأنق في تقديم الكتاب والشعراء، والتعريف بهم والثناء عليهم، والنقد لهم، ولكنه يخالف الثعالبي في أمر ذي خطر، فهو أبعد منه نظرا، وأنفذ منه بصيرة، وأعمق منه تفكيرا، وهو على تكلفه في اللفظ لا يخدع بالرواء الظاهر عما وراءه من جودة المعنى أو رداءته، ومن صواب التفكير أو خطئه، ولعله يكون أفقه من الثعالبي بالحياة الأدبية في إقليم من الأقاليم، فهو أدق منه ملاحظة لما يكون من الصلة القوية بين طبيعة وماينتج فيه من أدب، بل بين طبيعة الأجناس البشرية ومانتج من أدب، فهو قد لاحظ مجاورة المسلمين في الأندلس لأعدائهم من الفرنجة وتأثير هذا الجوار فيما كان للمسلمين من شعر ونثر.
وقد سار ابن بسام سيرة الثعالبي في العناية بالملوك والأمراء والرؤساء ومايكون من تأثيرهم في الأدب، ومايكون من إنتاجهم الأدبي الخاص، ولكن عنايته بهذه الناحية من الحياة الأدبية كانت أشد وأقوم وأجدى من عناية الثعالبي، فهو لا يكتفى بهذا الإطراء الذي لا غناء فيه، والذي تمتلئ به اليتيمة، وهو لا يكتفى برواية مقتطفات من الآثار الأدبية للملوك والوزراء والأمراء كما فعل الثعالبي، ولكنه يعرض تاريخهم عرضا دقيقا مفصلا، يرد آثارهم الأدبية إلى مصادرها، وقد عمد في ذلك إلى مذهب مستقيم حقا ظاهره السهولة وإيثار العافية والاعتماد على غيره، ولكنه في حقيقة الأمر خصب دقيق كل الدقة.
وابن بسام في عمله هذا الذي جمع فيه بين الشعر والخبر جمع الروضة بين الماء والزهرعلى حد تعبيره، يحدد مبدءا دقيقا من مبادئ النقد الحديث الذي يجعل وضوح التفسير ودقة التقويم رهنا بمعرفة الدوافع والحوافز التي أحاطت بميلاد النص، وكذلك الظروف التي صاحبته.. وقد عمق ابن بسام مفهوم النقد الأدبي التاريخي بأوسع عناصره، مع تطبيق دقيق يؤكد إيمانه الراسخ بأهمية هذا النقد في إيجاد العلاقة بين المتأخرين والمتقدمين، وهذه العلاقة التاريخية تعد أساساً حيويا في الحكم على الأثر الفني في النقد الحديث.
ويبقى تساؤل قد طرحه أحد الباحثين المعاصرين، وهو : هل ألّف ابن بسام الكتاب بنفسه، أم كان أملاء منه لتلاميذ؟ هل أكمله في حياته وأعطاه الطابع الذي وصلنا به، أم تركه فصلا تولى من بعده إعدادها وترتيبها؟
حيث يرى أن الكتاب في صورته الأخيرة ليس من صنع الرجل، فهو يبدأ فقراته بقول : قال أبو الحسن، أو قال ابن بسام يشير إلى نفسه وهي طريقة لم تكن معروفة في عصره، فلا نجدها مثلا عند معاصره الفتح ابن خاقان ولا في الكثرة الغالبة من كتب التراث التي وصلت إلينا، والكتاب الذي يسير على هذا النهج هو ” تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية” وقد انتهى الرأي فيه إلى أنه محاضرات أملاها المؤلف على طلابه وقاموا هم بجمعها من بعده وصنعوا منها كتابا، فَلِم لا يكون الأمر كذلك في كتاب ابن بسام؟
ولكن لم يعرف عن ابن بسام أنه احترف التدريس أو جلس إلى طلابه، كما أن الصناعة في أسلوبه والتزام السجع في كتابته، يومئ بأنه وليد تفكير طويل، وتحبير مستأن، فلم يبق غير الظن بأن الرجل ترك الكتاب فصولا معدة، وأن غيره قام بإعدادها وأضاف إليها ماأراد.
التعليقات مغلقة.