الرموز البصرية في النص الشعري.
د.وجيهة السطل
تمثل الرموز البصرية في الشعر ،ما يتجسّد في مخيلة المتلقي قارئًا أو مستمعًا،من صور ولوحات،حين قراءة القصيدة. وما تتركه الاستعارات التصريحية والمكنية ،وألوان التورية والكناية والمجاز، وما ترسمه الألفاظ المختارة بدقة ..وغير ذلك من فنون البلاغة ؛ من ظلال مرئية،
ومن آثار في نفوس المتلقين، تجعلها نماذج حية تتحرك أمامه بشخوصها، وتعطي للشعر معنىً ورائحةً ومذاقًا؛ وهي مايطلق عليه ( الصورة الفنية في الشعر ) .
وليست القصيدة الناجحة، سوى سلسلة من الصور الجزئية المتداخلة أو المتتالية، تتحد معًا في لوحة متكاملة، ترسم للمعاني ظلالاً حية،ولوحات تشكيلية،تكسب القصيدة جمالها ، وقدرتها على التأثير.
ولعل قصيدة نزار قباني غرناطة تمثل هذا المفهوم أصدق تمثيل .فتعالَوا نقرأ ونحلل.
غرناطة … نزار قباني
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما أطيب اللُّقيا بلا ميعاد
عينان سوداوان في حجريهما
تتوالد الأبعاد من أبعاد
هل أنت اسبانية ساءلتها
قالت: وفي غرناطة ميلادي
غرناطةٌ؟؟! وصحت قرون سبعة
في تينك العينين بعد رقاد
وأمية راياتها مرفوعةٌ
وجيادُها موصولة بجياد
ما أغرب التاريخَ كيف أعادني
لحفيدة سمراء من أحفادي
وجهٌ دمشقيٌّ، رأيت خلاله
أجفان بلقيس وجيد سعاد
ورأيت منزلنا القديم وحجرةً
كانت بها أمي تمد وسادي والياسمينةَ رصِّعت بنجومها
والبركة الذهبية الإنشاد
ودمشق ، أين تكون؟ قلت ترينها
في شعرك المنساب ليل سواد
في وجهِك العربي في الثغرِ الذي
مازال مختزنا شموس بلادي
في طيبِ جنات العريف ومائها
في الفل في الريحان في الكبّاد
سارت معي، والشعر يلهث خلفها
كسنابلٍ تُرِكتْ بغير حصاد
يتألَّق القرطُ الطويلُ بجيدها
مثل الشموعِ بليلة الميلاد
ومشيت مثل الطفلِ خلف دليلتي
وورائيَ التاريخ كومُ رماد
الزخرفاتُ أكاد أسمع نبضَها
والزركشاتُ على السقوف تنادي
قالت: هنا الحمراء زهو جدودنا
فاقرأعلى جدرانها أمجادي
أمجادها ؟ ومسحت جرحًا نازفًا
ومسحتُ جرحًا ثانيًا بفؤادي
ياليت وارثتي الجميلةَ أدركتْ
أن الذين عنتهمو أجدادي
عانقتُ فيها حينما ودَّعتها
رجلًا يُسمّى طارق بن زياد
رؤية الدكتورة وجيهة السطل
لو التقطنا لوحات الصور الجميلة العبقة بعبير دمشق وبني أمية، وصفحات التاريخ؛ التي تركتها أبيات الشاعر نزار قباني.لتكدس الليلك والياسمين والفخر والمجد والحزن والألم والأسى في دروب الشارحين، أو المحللين للنص ،أو الدارسين،لقيمه الفنية والإبداعية والجمالية.
وانظر إلى العيون الأربع التي تلاقت في مدخل الحمراء. فكانت مرايا متوازية، خلقت آلاف الصور المتماثلة، التي تنبثق إحداها من الأخرى.
(تتوالد الأبعاد من أبعاد).وتركتِ الشاعر في دوامة. نقلته إلى دمشق،ودفعته،ليسائل الفتاة
وكأنه لا يصدق نفسه: هل أنت إسبانية؟
وصحت القرون السبعة التي تفصله عن أمجاد الأندلس، مع نطق الفتاة للفظ غرناطة موطن مولدها.
وعادت أمجاد الأمويين ، وفتح الأندلس ورأى رايات النصر ترفرف. والجياد بفرسانها المنتصرين ،يتواصل تدفقهم على ربوع الأندلس.
ثم يتعجب من التاريخ الذي صحا ،وانطلق من عيني الاسبانية. ليس التاريخ البعيد فقط. بل إن ملامحها العربية،بل الدمشقية،نقلته إلى الماضي القريب،وإلى البيت الأموي الذي نشأ فيه واحتضن طفولته وصباه في دمشق.فانعكس من وجهها وعينيها،منزلهم القديم، وغرفته الخاصة،والياسمينة، والبركة التي تتوسط ساحة الدار في البيت الأموي. وصافح سمعه صوت الماء المتدفق من أفواه التماثيل الجميلة الصغيرة المتراصة على محيط البركة.ولم يجد لصوتها وصفًا أجمل من الذهب فقال:(والبركة الذهبية الإنشاد) ورأى أمه تعد القهوة لوالده، الذي يقرأ في كتابه، وزهر الياسمين يتساقط فوق الصفحات.
وسألته لجهلها : وأين تكون دمشق هذه؟ فصار يرسم لها دمشق مجسدة،في ملامحها،وفي كل ما تركه العرب في الأندلس،في الوجوه، والعمران،والطبيعة الجمالية الدمشقية، حين جعلوا جنات العريف نسخة من غوطة دمشق بتنوع أشجارها وثمارها وأزاهيرها، ونقلوا الياسمين الدمشقي ليعرش على شرفات البيوت في جميع مدن الأندلس.
ثم ينقله الأسى والذكريات،إلى أن يسمعها ،تقوم بدور الدليل السياحيّ له،وتصف له قصر الحمراء ،فخر التراث المعماري الإسلامي،
وتتبعه بقول يطعن لايرحم كالخنجر:
هنا الحمراء رمز جدودنا
فاقرأ على جدرانها أمجادي!!!!
وانفتح الجرح النازف أسفًا من ذكرى ضياع الأندلس.
ويهمس في حرقة وألم:
يا ليت وارثتي الجميلة أدركت
أن الذين عنتهم أجدادي
وتكتمل لوحة التاريخ والمجد والأسى وذكريات الماضي المؤلمة، ليظل نزار – الذي خلد المرأة بعطور تراكيبه، وقاموسه اللغوي – في عمق التاريخ،ويسلم عليها عندما يودعها وكأنها اختفت وتجسد أمامه ،البطل الصنديد طارق بن زياد ،الذي كان على رأس الجيوش حين فتح الأندلس.
أعتذر إذا أثقلت عليكم. ولكن القصيدة تحفل باللوحات التشكيلية،والجمال الخلاب الذي تخلقه تلك الصور البيانية،والألفاظ المعبرة،وانظر إلى قوله: (والشعر يلهث خلفها)
(الزخرفات أكاد أسمع نبضها
والزركشات على السقوف تنادي) .
وتعدُّ هذه القصيدة من أجمل الأمثلة التي تجسّد،ما أسميته في مطلع المقال الرموز البصرية.
أشكر لكم طيب المتابعة .ولكم تحياتي ومحبتي
التعليقات مغلقة.