الشاعر السوداني محمد عبد الباري بقلم :راكان سعيد الببواتي -العراق
حلّق الشاعر السوداني محمد عبد الباري مبكرًا في سماء الشعر العربي المعاصر، إذِ استطاع أن يصنع لنفسه صرحا شامخا ومجدا راسخا، وأن يكرس اسمه في أعلى لائحة الشعرية المعاصرة، لا سيما بعد ظهوره بقصيدة: “مالم تقله زرقاء اليمامة” في صالون ميس الأدبي عام ٢٠١١م، فكان لهذه الصومعة الشعرية وفوزه بجائزة الشارقة للإبداع العربي بالإمارات العربية المتحدة في دورتها السادسة عشرة عام 2013م ، الفضل الكبير في ذيوع صيته واشتهاره بين الدارسين والمتذوقين للأدب العربي ، فهو صاحب لغة شعرية جذابة وصور مدهشة وعاطفة حارة وخيال واسع وفكر فلسفي وإبداع متجدد، فهو ليس شاعرا فحسب بل باحثٌ محدث ، ما إن تصغي إليه حتى تشعر بنفسك أمام قامة شعرية ؛ صغير في سنّه ، كبير في إبداعه فهو لا يقنع بما دون السماء ، فكعبه الشعري عالٍ بشهادة من قرأ له ، واستطاع من خلاله أن يجلب الدارسين إلى الشعرية المتمثلة بنزعتها الحداثية_التراثية بعد سيادة السرديات وهيمنتها بالحضور في أغلب الدراسات المعاصرة.
وعلى الرغم من أن الساحة الأدبية تعج بالشعراء الحقيقين إلا أنه استطاع أن يحلق بعيدا في مراميه ، ويطير في سربه الخاص به ، وأن يجذب النقاد والدارسين نحوه ليحظى بالدراسات والبحوث ، ويحدث حراكا بين الأوساط الأدبية ويشغلهم بإبداعه السحري ويعيد للشعر هيبته ورونقه وللقصيدة العربية نضارتها وحيويتها لتنبض بالأصالة الشعرية في هذا الفضاء إذ يعجنها بالموروث الثقافي والفكر الفلسفي بنَفَسٍ شعريٍّ أصيل وحلة جديدة ليخرج لنا من الجواهر الشعرية أنفسها على خطى جده المتنبي وقدوته الفيتوري.
أكاد أجزم أنه من أكثر الشعراء المعاصرين حظوة وإشعاعا في العامين المنصرمين على الرغم من بروز كوكبة من الشعراء المعاصرين له في الساحة الأدبية الشعرية من أمثال علاء جانب وأحمد بخيت وتميم البرغوثي وغيرهم ممن أثرى الساحة الأدبية وقد تكون هذه الحظوة مرتبطة بصدور دواوينه الشعرية الطافحة بالإبداع والألق الذي تزخر به قصائده فائقة الجودة.
إصداراته الشعرية :
• مرثية النار الأولى ٢٠١٣
• كأنك لم ٢٠١٤
• الأهلة ٢٠١٦
• لم يعد أزرقا ٢٠٢٠
• أغنية لعبور النهر مرتين ٢٠٢٢
تتضمن هذه الدواوين بين طياتها قصائد لها وقع في النفوس وقبول هائل عند المتلقي كما أنها جلبت له الصيت حتى أصبحت قصيدته مالم تقله زرقاء اليمامة ضمن المنهج الدراسي الفلسطيني نتيجة مواكبتها للحظة الراهنة في العالم العربي بعد موجة الربيع العربي وتنبؤه بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والاجتماعية برؤيته الفاحصة الراصدة لتلك الثورات العربية.
قصيدته” ما لم تقله زرقاء اليمامة ” من ديوانه مرثية النار الأولى
ناديتُ يَا يَعْقُوب تِلكَ نُبُوءَتِيْ
الغيمةُ الحُبْلَى هُنَا لن تُمْطِرَا
قَالَ اتّخِذْ هَذَا الظلام خَرِيْطَةً
عندَ الصّباحِ سيحمد القَوم السُّرَى
لا تَبتَئِس فالبئرُ يومٌ واحِدٌ
وغداً تُأمّركَ الرياحُ على القُرَى
اخلعْ سَوادَكَ ..في المدينة نسوةٌ
قَطّعنَ أيديهنّ عنكَ تَصَبُّرَا
قُمْ .. صَلّ نَافلة الوصولِ تحيّةً
للخارجينَ الآن مِنْ صَمتِ الثّرَى
واكْشِف لِأخوتِكَ الطريقَ لِيَدخُلُوا
مِنْ ألفِ بابٍ إِنْ أَرادُوا خَيْبَرَا
ستَجيءُ سَبعٌ مُرّةٌ .. فالتَخزِنُوا
من حكمةِ الوجعِ المُصَابِر سُكّرَا
سبعٌ عِجافٌ .. فاضبِطُوا أنفَاسَكُم
مِنْ بعدِهَا التّاريخُ يرجِعُ أَخْضَرَا
هِيَ تلكَ قافلةُ البشيرِ تَلُوحُ لِيْ
مُدُّوا خيامَ القلبِ، واشتَعِلُوا قِرَى
أشتمُّ رائِحَةَ القَمِيصِ .. وطالمَا
هطَلَ القَميصُ على العُيُون وبَشّرَا
هنا يتنبأ الشاعر برؤية استشرافية بواقع الثورات العربية ورصد أحداثها ووقائعها ودعوة إلى عدم اليأس والتطلع إلى الحرية بنظرة تفاؤلية، وذلك بتوظيف التناص الديني مستعينا بقصة يوسف عليه السلام ؛ ليفرغ رؤيته الاستكشافية من خلالها ، وهو يقدم نبوءته ورؤيته إلى يعقوب بأن الثورات العربية التي عبر عنها بـــ( الغيمة الحبلى) هنا لن تحقق الحرية التي تحاول البحث عنها بسبب ما تعيشه هذه البلاد من ذل وهوان، ولكن ربما تتحقق هناك أي في بلاد أخرى، وقد كان اختيار الشاعر لكلمة “نبوءتي” بدل “نظرتي “موفقا ؛ وذلك لأن دلالات الرؤية أعمق وأبعد من دلالات النظر، فالرؤية تكشف ما وراء الستار ، في حين أن النظر يبقى محكوما بالمادة لا يتجاوزها ، ثم ينصحه بأن يتخذ هذا الظلام خريطة ترشده وتدله إلى بلاد أخرى تحقق فيه الأمن والاستقرار مستعينا بالمثل العربي (عند الصباح يحمد القوم السرى)، وهو مثل يضرب لأصحاب الهمم العالية القادرة على مجابهة الصعاب، كما أنها تضمنت حثا على العاقبة الحسنة بعد هذا العناء الذي فتك بالشعوب ، وأن لا ييأسوا من ضيق البئر، فالرياح ستأتي حمالة للبشرى والخلاص ، كما أنه يدعوهم إلى الابتعاد عن هذه النظرة السوداوية، فالدهر يومان ذو أمن وذو خطر، فلا بد من الصبر على النكبات ومواجهة التحديات من جهة، ومن ضبط النفس على مبدأ الثبات بوجه الظلم والاستبداد من جهة أخرى ، وهو يؤكد هذا المعنى ويوضح رؤيته بالثنائيات الضدية :
سبع مرةٌ × سكرا
سبع عجاف × أخضرا
وهذه الدلالة تحمل في طياتها بشائر انتهاء الثورات العربية بنتيجة إيجابية بتحقيق الحرية والعدالة، وجعل تاريخنا أخضر ، لتشرق شمس البلدان العربية بقدوم قافلة الخير ، وقد استعار الشاعر بشارة القميص الذي وضع على وجه يعقوب فعاد إليه بصره ، فهو (أي القميص) يحمل في طياته بعدا دلاليا يحيل للحرية وإمكانية تحقيقها في المستقبل القريب.
التعليقات مغلقة.