الشفاعــــــــــــة “محاولة لفهم الخلاف القديم بين المؤيدين والمعارضين” عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
الشفاعــــــــــــة “محاولة لفهم الخلاف القديم بين المؤيدين والمعارضين” عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
كتاب الشفاعة في الأصل سلسلة مقالات كتبها المفكر والأديب د. مصطفى محمود، وتابعتها من خلال مقاله الأسبوعي المنتظر كل سبت، بجريدة الأهرام المصرية أواخر تسعينات القرن الماضي ، وقد أزعجت الكثيرين من الأصوليين، والتراثيين، حيث رأوا في ذلك إنكارا لثوابت معلومة من الدين بالضرورة ، ولآيات مذكورة بنصها، وأحاديث صحيحة مشهورة، لا تحتمل اجتهادا، أو إعمال عقل، وأن الدخول فيها من قبيل فتنة الناس وتشكيكهم في معتقداتهم، ولاداعي للحديث في مثل هذه الموضوعات المثيرة، من باب سد الذرائع، فالفتنة نائمة ملعون من أيقظها..
ويرد المؤلف في البداية بما يهدئ المختلفين معه في الفكر، والمنكرين للطرح، أن مايقدمه هو محاولة لفهم، واجتهاد قد يصيب وقد يخطيء، وأنه لا يدعي لنفسه كمالا، ولا عصمة رأي، ومن حق كل قاريء أن يختلف معه، وأن يفهم القضية على طريقته، معللا ذلك بأن الله تعالى أرادنا أحرارا، نتدبر آياته، ونتفهم قرآنه، كل على قدر طاقته، والله سبحانه وحده هو صاحب العلم الكامل، ورضاه هو غاية غاياتنا.
ويرى أن إشكالية الشفاعة موضوع قديم سبق أن تناولته الفرق الإسلامية، وخاض فيه المفكرون في كل اتجاه، والسبب في ذلك أن القرآن ينفي الشفاعة في الكثير من آياته المحكمة نفيا مطلقا، وفي آيات أخرى يذكرها مقيدة ومشروطة بالإذن الإلهي، بينما تروي لنا الأحاديث النبوية المتواترة بأن محمداﷺ يقف شفيعا يوم القيامة للمذنبين، ولأهل الكبائر من أمته، وأن الله يقبل شفاعته، وهو مخالف لصريح القرآن، فلن ينجو من المذنبين إلا من تكرم عليه رب العزة، وفتح له بابا للتوبة قبل الممات.. وأن الشفاعة الممكنة على حد قوله، هي دعاء النبي لمسلمي هذه الأمة بأن يختم حياتهم بتوبة..
أما الشفاعة بمعنى هدم الناموس وإخراج المذنبين من النار وإدخالهم الجنة، فيعدها من قبيل فوضى الوسايط التي نعرفها في الدنيا، ولا وجود لها في الآخرة، وكل ما جاء بهذا المعنى في الأحاديث النبوية مشكوك في سنده ومصدره؛ لأنه يخالف صريح القرآن القائل:{قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر : 44]
وهو بذلك يجمع سلطة الشفاعة، ويجعلها لله وحده، وقوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس : 3]
والسبب طبيعي، فهو وحده الذي يعلم استحقاقات كل فرد، وماذا فعل في دنياه من خير وشر، وماهي أعذاره إن كانت له أعذار، وهو الوحيد الذي يعلم قلبه وضميره، ويعلم السر وأخفى.
وفي نفي صريح وقطعي للشفاعة يوم الحساب قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة : 4] بإضافة حرف “من”.
وليس غريبا أن تمتليء الكتب بالمدسوس من أحاديث الشفاعة، فتقرأ في أحدها أن النبي ﷺ يدخل بشفاعته إلى الجنة رجلا لم يفعل في حياته خيرا قط، ويكون هذا الرجل هو آخر الداخلين إلى الجنة، ولايرى هدفا من أمثال هذه الأحاديث المدسوسة سوى إفساد الدين، والتحريض على التسيب والانحلال، وفتح باب الجنة للكل؛ لأن الشفيع سجد عند قدم العرش، وقال متوسلا: لا أبرح حتى تدخل كل أمتي الجنة يارب.
إن للإسلام أعداء ولدوا مع ميلاده، وكبروا معه ولبسوا ملابسه، وصاحبوه بالسوء، وحاصروه بالفتن، وحفوه بالعداوات، وحاولوا تشويهه بالمفتريات، ولكن القرآن وقف لهم بالمرصاد، فكان حسن فهمه، وسلامة تفسيره، الضمان الوحيد لسلامة الدين نفسه.. فلا تستخفكم الروايات والأحاديث التي تدخلكم الجنة بغير حساب لمجرد أنكم تلفظتم بكلمة التوحيد، فالتوحيد ليس مجرد كلمة، وإنما حقيقة تملأ القلب ويترجمها العمل، ويؤكدها السعي في الأرض، وفي مصالح الناس، وتعبر عنها حركة الحياة بأسرها مصدقا لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41) وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ (42)} [النجم : 39-42].
وماهم بخارجين من النار:
ويلفت الكاتب انتباهنا إلى نفي القرآن لإمكانية خروج من يدخل النار في الكثير والعديد من آياته من الكفار ومن المسلمين أيضا، وشاهده قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة : 37] قيلت في الكفار.
ويقول أهل النار في سورة المؤمنون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون : 107-108]، قيلت في الكفار.
وعن الكفار أيضا في سورة البقرة: { كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167]
ويعود القرآن فيقول نفس الكلام عن المسلمين المنافقين، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء : 145]، ويقول عن عصاة المسلمين:{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء : 14]
ويقول عن الظالمين، والظالمون، فيهم المسلم الظالم، والكافر الظالم، { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر : 18]
ويقول عن قاتل النفس ويدخل فيه المسلم وغير المسلم: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء : 93]
ويقول الله لمحمد ﷺ في سورة الزمر: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} [الزمر : 19] والكلام لرسول الله ﷺ مباشرة في استفهام استنكاري، كما ينكر الخروج من النار على من كتب عليهم بدخولها، فكل من يدخل النار تتأبد إقامته فيها، ولايوجد في القرآن حكاية التعذيب لأجل محدود في جهنم، ولا فكرة ” المطهر ” في كتب المسيحيين، يقول تعالى: {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 80] وهو كلام عن مسلمين.
وفي سورة يونس يتكلم عن الخاطئين من المسلمين: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس : 27]
والمذنبون موضع الآيات هم الذين أذنبوا ولم يتوبوا، وتمادوا وانغمسوا في ذنوبهم حتى أحاطت بهم، فهم أهل الإصرار والاستكبار والتفاخر بالذنوب.
وهذه الثوابت القرآنية يراها الكاتب تتناقض تماما مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة عن إخراج الرسول ﷺ لمن يشاء من أمته من النار، مما يؤكد أن هذه الأحاديث موضوعة ولا أساس لها من الصحة، ولا يمكن أن تكون صدرت عن النبي.
وشفاعة الملائكة للبعض في القرآن لا تأتي ابدا سابقة للحكم الإلهي بالعفو، بل تأتي بعده { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 28] فالحكم الإلهي بالعفو يأتي أولا، وتكون شفاعة الملائكة أشبه بالبشارة.. فالله وحده الذي يتكرم بهذه المغفرة، وهو وحده المفوض إليه في كل هذه الأمور وهذا معنى الآية:{ لله الشفاعة جميعا}.
ويدلل الكاتب على ذلك بقوله: ألم يقل ربنا تبارك وتعالى لمحمدﷺ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران : 128] ثم يتساءل، فكيف نقلب الأمر، ونجعل من النبي صاحب الأمر يوم القيامة، والمنفرد بالشفاعة يومها؟! ويسترسل قائلا: وحينما جاء البلاغ للنبي في سورة الشعراء: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء : 214] ألم يبادر النبي فينادي على أهل بيته: يا خديجة إني لن أغني عنك من الله شيئا.
يا فاطمة إني لن أغني عنك من الله شيئا.
يا فلان يا فلان.. ولم يدع أحدا من أهل بيته إلا أبلغه.. فكيف جعلوا بعد ذلك من النبي وسيطا يتشفع عند الله؛ ليخرج من النار بعض كن دخلها من أمته؟!
رأي من الأزهر:
وينتقي المؤلف منها رؤية الدكتور عبد العظيم المطعني، حيث قال: وردت في القرآن آيات تفيد نفي الشفاعة في الآخرة، وآيات أخرى تنص على إثباتها، كما وردت أحاديث نبوية كثيرة تثبت الشفاعة ولا تنفيها، وهذا الاختلاف الظاهري حمل البعض على القول بنفي الشفاعة مطلقا، ويضيف البعض الآخر أمورا مؤيدة لجانب النفي على الإثبات، بحجة أنها نوع من المحاباة والظلم والمحسوبية، وهذه أمور نهى الله عنها في الدنيا، فكيف يسمح بوقوعها في الآخرة، حيث لا تجزى كل نفس إلا بما عملت.
والنظرة المتأملة تقول بغير ذلك، فليست الشفاعة في الآخرة منفية نفيا مطلقا، كما أنها ليست واقعة وقوعا مطلقا.. والآيات التي جاء فيها نفي الشفاعة في القرآن نوعان:
ماورد فيها نفي الشفاعة نفيا مطلقا، وهي آية واحدة في قوله تعالى:{ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة : 254] لأنه لا أحد مأذون فيها،
وماورد فيه نفي الشفاعة نفيا مقيدا، ومنه الآيات الآتية: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر : 48] والآية الثانية:{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر : 18]، والنفي في الحالين، نفي الشفاعة عن أهل الكفر والظلم ( نفي مسبب) وكذلك الشرك. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء : 48].
أما الآيات التي ورد فيها جواز الشفاعة في الآخرة { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ } [البقرة : 255]،{يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه : 109] وهي آيات لا تنفي الشفاعة أصلا، وإنما تربطها بالإذن للشافع والمشفوع فيه.
وليست الشفاعة محسوبية، وإنما هي تكريم للشافع، ورحمة من الله للمشفوع فيه، ممن يعلم الله أنهم من أهل الرحمة، ومن أهل التقوى.
وبهذا يرى د. مصطفى محمود في رأي الدكتور المطعني موقفا وسطا بين النفي مطلقا، والإباحة مطلقا بأن يجعلها مشروطة، وليست نهبا لكل من يطمع فيها، كما أنه يحول دون هذه الاتكالية التي يرتاح إليها كل مسلم، فيتصور أنه من أهل الجنة مهما فعل، وكيف يدخل النار ومعه الشفيع الأعظم الذي لا ترد شفاعته؟!
كما يرى أن موضوع الشفاعة وتفاصيل ما سيجرى فيها، والآخرة وأسرارها وحسابها، هي أمور غيبية لا يستطيع أحد أن يقطع بما سيحدث فيها تفصيلا، والتعصب فيها إلى جانب دون آخر تطاول بغير علم.
والمرجع الوحيد الحق هو الله وحده في الحالين.. والحكمة القرآنية في هذا التعتيم في قضية الشفاعة، أن الله أراد لنا أن نعيش على حذر عظيم، وعلى خوف عظيم طول الوقت من هذا اليوم، وأن يخلق فينا برحمته مشاعر التقوى التي هى درعنا الوحيد لحفظنا من التردي.
ثم يضيف أن ماحفزه على الكتابة في موضوع الشفاعة إلا حديث رسولنا العظيم الذي قال فيه: من يترك العمل ويتكل على الشفاعة، يورد نفسه المهالك، ويحرم من رحمة الله، فكان خوفه من هذه الاتكالية هو حافزي الأول والأخير، ونحن أمة المتواكلين.. وما كتبت إلا اجتهادا، ولا ادعي العصمة، والله وحده أعلم بالصواب، فإن أصبت فبهديه، وإن أخطأت فمن نفسي، هو وحده أهل التقوى، وأهل المغفرة.
التعليقات مغلقة.