الشيء النادر بقلم حسام شلقامي
كنت في عيادتي الفخمة في أرقى مناطق القاهرة، أستعد للمغادرة والعودة للمنزل، فقد أخبرني مدير العيادة أن الكشف الذي سيدخل الأن هو آخر مريض، سألته عن تلك الجلبة التي في الخارج رغم أنه مريض واحد، أخبرني أن معه مرافقين كثر، لم تتسع لهم صالة الانتظار، حتى أنه طلب من كثيرين غير الموجودين بالخارج أن ينتظروا أسفل العقار، وأنهم قبلوا ذلك بكل أريحية.
أمرته أن يدخل المريض، ومعه مرافق واحد أو إثنين على الأكثر. وأدخل إلي المريض ومعه مرافق واحد يبدو ذو مهابة، رغم تواضع ملابسه، والتي كانت تكاد تتطابق مع ملابس المريض، حتى أنني تساءلت أنى لهؤلاء بثمن كشفي المرتفع جدا؟
كانت معهما مجموعة أشعات وتحاليل طبية، اطلعت عليها، ثم قمت بالكشف على المريض، كان يدعى الحاج قاسم، كانت الحالة متأخرة جدا فقد تمكن المرض اللعين من أجزاء متعددة من جسده، لم يكن الأمل مفقودا تماما في حالته.
كان العلاج ما زال ممكنا ولكنه كان صعبا ومكلفا، بالطبع حالتهم التي بدت لي وشت أنهم غير قادرين على تحمل نفقة العلاج في مستشفاي الخاص، أوشكت أن أكتب لهم تحويلا على أحد المستشفيات الحكومية، العلاج فيها متاح ولكن نسبة النجاح أقل بالطبع.
قبل أن أكتب التحويل، وجهني ضميري المهني، أو ربما نهمي المهني، والله لست أدري أيهما بالضبط؟ هو الذي جعلني انتحي بالرجل الذي كان يرافق المريض، وعلمت أن اسمه الحاج جمال وأطلعته على الأمر برمته، وأخبرته أنه يمكنه علاج الحاج قاسم في مستشفى حكومي بدون تكلفة تذكر تقريبا، وأنني سأتابع حالته بنفسي أو علاجه في مستشفاي الخاص ولكن بتكلفة عالية جدا، وأوضحت له نسبة نجاح العلاج هنا و نسبته هناك وأخبرته بأهمية الوقت.
وجدته يسألني:
.. ألا يمكن الانتظار أسبوعا مثلا ريثما أتمكن من بيع بعض الأشياء لتوفير تكلفة العلاج؟
سألته بلهجة شبه ساخرة وأنا أنظر لثيابه الرثة:
…وماذا عساك تملكه لتبيعه حتى تتمكن توفير تكلفة العلاج؟!
تجاهل سؤالي وسألني بهدوء؟
…كم مليونا يحتاجها علاج الحاج قاسم؟
بدا الذهول على وجهي كنت أظنه يعتقد أن العلاج قد يتكلف مئات الجنيهات أو حتى آلاف الجنيهات فإذا بهذا الفقير البائس يسألني كم مليونا يتكلفها العلاج، استغرقت لحظات حتى استطعت السيطرة على نفسي والخروج من حالة الذهول التي سيطرت علي وأجبته:
…لا لا لن يصل الأمر إلى الملايين فالعلاج لن يتكلف إلا مائة ألف جنيه على أقصى تقدير.
فتنفس الرجل الصعداء وجلس على كرسيه، وفوجئت به يخرج من جيبه دفتر شيكات أعرفه جيدا، وأعرف درجة ثراء من يملكونه، فأنا أملك واحدا مثله، وفوجئت بالرجل يكتب لي شيكا بمبلغ مائةوخمسين ألفا ويقدمه لي قائلا:
…ابدأ علاجك على الفور يا دكتور
عدت من جديد إلى ذهولى السابق، ولكنني تمالكت نفسي وقلت له وأنا لاهث الأنفاس أحدق فيه:
…هل تسمح لي أن أسألك سؤالا بعيدا عن موضوع العلاج؟
فأشار لي بأيماءة من رأسه بمعنى تفضل
فسألته:
…لماذا وأنت على هذه الدرجة من الثراء ترتدي تلك الثياب المتواضعة؟!
فأجابني بهدوء:
…لأكون مثل جيراني الذين أعيش بينهم، فلا اتميز عنهم بشيء لا استطيع مغادرة المكان الذي نشأت فيه، من السهل علي أن أبيع بيتي هناك، ولكن كيف أبيع مثل هؤلاء الجيران الطيبين، إنهم لا يقدرون بمال، يعجز كل الخبراء عن تثمينهم، وأنا أعجز عن بيع جيرتهم رغم أنني أشطر تاجر وأنجح رجل أعمال، امتلك المليارات من الجنيهات وليس الملايين، لكنني لم استطع مغادرة البيت الذي نشأت فيه بينهم فقيرا، هم يرفضون أية مساعدة مني، أعرف عزة أنفسهم جيدا، أعيش بينهم كما يعيشون.
غلبني الصمت فلم أعد أقوى على الحديث، ما زال الذهول يتملكني تماما.
فاسترسل الحاج جمال:
يبدو أنك لا تصدق ما أحكيه لك، تعال معي، وسحبني من يدي وخرجنا إلى المرافقين في صالة العيادة، وتركنا المريض بالداخل، بعد أن أشار له الحاج جمال أن ينتظرنا قليلا، ووقف الحاج جمال وسط حشد المرافقين الذين كانوا رجالا ونساء، كان يعاملون الحاج جمال كأنه قائدهم أو زعيمهم، ووقف الحاج جمال يحكي لهم ما دار بيننا بإستثناء أنه أعطاني شيكا بتكلفة العلاج وأخبرهم أن العلاج الناجع لحالة الحاج قاسم يتكلف مائة ألف جنيه، ففوجئت بالجميع دون استثناء يخرجون كل ما في جيوبهم من نقود ويضعونها بين يدي الحاج قاسم، وحتى النسوة اللاتي كن متواجدات انتزعن أقراطهن الذهبية من آذانهن وخواتمهن من أصابعهن وأعطينها للحاج جمال وفي دقائق تجمع أكثر من مائة ألف جنيه، أما أنا فقد انهمرت في بكاء شديد، ومن يومها قد خفضت تعريفة كشفي لأقل من ربع قيمتها الأولى.
التعليقات مغلقة.