الصحابى الجليل ” أبو ذر الغفاري ” … محمد الدكرورى
الصحابى الجليل أبو ذر الغفارى
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة رضي الله عنه ، ولد في قبيلة غفار، وكان من السابقين إلى الإسلام ، وكان أبو ذر من أشد الناس تواضعًا، فكان يلبس ثوبًا كثوب خادمه، ويأكل مما يطعمه، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت ثوبك والثوب الذي على عبدك وجعلتهما ثوبًا واحدًا لك، وكسوت عبدك ثوبًا آخر أقل منه جودة وقيمة، ما لامك أحد على ذلك، فأنت سيده، وهو عبد عندك، فقال أبو ذر: إني كنت ساببت (شتمت) بلالاً، وعيرته بأمه؛ فقلت له: يا ابن السوداء .
فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي النبي : ” يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية “، فوضعت رأسي على الأرض، وقلت لبلال: ضع قدمك على رقبتي حتى يغفر الله لي، فقال لي بلال: إني سامحتك غفر الله لك، وقال : إخوانكم خولكم (عبيدكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ” رواه البخاري .
وفي وادي ودان ، الذي يصل مكة بالعالم الخارجي كانت تنزل قبيلة غفار ، وكانت غفار تعيش من ذلك النزر اليسير الذي تبذله لها القوافل التي تسعى بتجارة قريش ذاهبة إلى بلاد الشام أو آتيه منها وربما عاشت من قطع الطريق على هذه القوافل إذا هي لم تعطها مايرضيها ، وكان جندب بن جناده ، المكني بأبي ذر واحدا من أبناء هذه القبيلة لكنه كان يمتاز منهم بجرأة القلب ورجاحة العقل وبُعد النظر .
وبأنه كان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التي يعبدها قومه من دون الله ويستنكر ما وجد عليه العرب من فساد الدين وتفاهة المعتقد ويتطلع إلى ظهور نبي جديد يملأ على الناس عقولهم وأفئدتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور .
ثم تناهت إلى أبي ذر وهو في باديته أخبار النبي الجديد الذي ظهر في مكة ، فقال لأخيه أَنِيس انطلق لا أبا لك إلى مكة وقِف على أخبار هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي وأنه يأتيه وحي من السماء واسمع شيئا من قوله واحمله إلي ، ذهب أنيس إلى مكة والتقى بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، وسمع منه ، ثم عاد إلى البادية ، فتلقاه أبو ذر في لهفة وسأله عن أخبار النبي الجديد في شغف .
فقال : لقد رأيت والله رجلا يدعو إلى مكارم الأخلاق ، ويقول كلاما ماهو بالشعر قال له : وماذا يقول الناس فيه ؟ فقال : يقولون : إنه ساحر وكاهن وشاعر ، فقال أبو ذر : والله ماشفيت لي غليلا ولا قضيت لي حاجة ، فهل أنت كاف عيالي حتى أنطلق فأنظر في أمره ؟ فقال نعم ، ولكن كُن من أهلِ مكة على حذر
فتزود أبو ذر لنفسه وحمل معه قربة ماءٍ صغيرة واتجه من غَده إلى مكة يريد لقاء النبي صلى الله عليه وسلم و الوقوف على خبره بنفسه ، بلغ ابو ذر مكة وهو متوجس خيفة من أهلها فقد تناهت إليه أخبار غضبة قريش لآلهتهم وتنكيلهم بكل من تحدثه نفسه باتباع محمدٍ لذا كره أن يسأل أحداً عن محمد لأنه ما كان يدري أيكون هذا المسؤل من شيعته أنصاره أم من عدوه .
ولما أقبل الليل اضطجع في المسجد فمر به علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه فعرف أنه غريب ، فقال : هلُمّ إلينا أيها الرجل فمضى معه وبات ليلته عنده وفي الصباح حمل قربته ومزوده وعاد إلى المسجد دون أن يسأل أحد منهما صاحبه عن شئ ، ثم قضى أبو ذر يومه الثاني دون أن يتعرف إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
فلما أمسى أخذ مضجعه من المسجد ، فمر به علي رضي الله عنه ، فقال له : أما آن للرجل أن يعرف منزله ، ثم اصطحبه فبات عنده ليلته الثانيه ، ولم يسأل أحدٌ منهم صاحبه عن شيئ فلما كانت الليلة الثالثة قال علي لصاحبه : ألا تحدثني عما أقدمك إلي مكة ، فقال أبو ذر : إن أعطيتني ميثاقا أن ترشدني إلى ما أطلب فعلت ، فأعطاه علي ما أراد من ميثاق فقال أبو ذر لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة أبتغي لقاء النبي الجديد وسماع شيئٍ مما يقوله .
فانفرجت أسارير علي رضي الله عنه وقال : والله إنه لرسول الله حقا ، وإنه ، وإنه ، فإذا أصبحنا فاتبعني حيثما سرت ، فإن رأيت شيئا أخافه عليك وقفت وكأني أريق الماء فإذا مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ، لم يقر لأبي ذر مضجع طوال ليلته شوقا إلى رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولهفة إلى استماع شيئ مما يوحى به إليه .
وفي الصباح مضى علي بن أبى طالب بضيفه إلى بيت الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ومضى أبو ذر وراءه يقفوه أى يتبعه ويمشي على أثره وهو لايلوي على شيئ لا يلتفت إلى شيء حتى دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر : السلام عليك يا رسول الله فقال الرسول : وعليك سلامُ اللهِ ورحمته وبركاته ، فكان أبو ذر أول من حيا الرسول صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام .
ثم شاعت وعمت بعد ذلك ، أقبل الرسول صلوات الله عليه على أبي ذر يدعوه للإسلام ويقرأ عليه القرآن ، فما لبث أن أعلن كلمة الحق ودخل في الدين الجديد قبل أن يبرح مكانه ، فكان رابع ثلاثةِ أسلموا أو خامس أربعة ، ولنترك الكلام لأبي ذر ليقص علينا بنفسه بقية خبره .
فيقول أبا زر : أقمت بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فعلمني الإسلام وأقرأني شيئاً من القرآن ، ثم قال لي : ” لاتخبر بإسلامك أحدا في مكة ، فإني أخاف عليك أن يقتلوك ” فقلت : والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد و أصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم .
فجئت المسجد وقريش جلوس يتحدثون ، فتوسطتهم وناديت بأعلى صوتي : يامعشر قريشٍ ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعا وهبوا من مجالسهم .، وقالوا : عليكم بهذا الصابئ ، الخارج من دينه .
وقاموا إلي جميعا يضربونني لأموت فأدركني العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وأكب علي ليحيمني منهم ثم أقبل عليهم وقال : ويلكم أتقتلون رجلا من غفار وممر قوافلكم عليهم فأقلعوا عني ولما أفقت جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى مابي قال : ألم أنهك عن إعلان اسلامك ، فقلت : يارسول الله ، كانت حاجة في نفسي فقضيتها .
فقال : الحق بقومك وخبّرهم بما رأيت وماسمعت وادعهم إلى الله لعل الله أن ينفعهم بك ويؤجرك فيهم ، فإذا بلغك أني ظهرت فتعال إلي قال أبو ذر : فانطلقت حتى أتيت منازل قومي فلقيني أخي أنيس فقال : ماصنعت ؟ قلت : صنعت أني أسلمت وصدّقت فما لبث أن شرح الله صدره وقال : مالي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت أيضا ثم أتينا أمنا فدعوناها إلى الإسلام فقالت : مالي رغبة عن دينكما وأسلمت أيضا .
ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المؤمنة تدعوا إلى الله في غفار لاتكل عن ذلك ولاتمل منه حتى أسلم من غفار خلق كثير وأقيمت الصلاة فيهم وقال فريق منهم : نبقى على ديننا حتى إذا قدم الرسول المدينة أسلمنا ، فلما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينه أسلموا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ” غِـفَارٌ غَفَرَ الله لها ، وأَسَلمُ سَالمَهَا الله ” .
وكان أبو ذر رضي الله عنه يحب الله ورسوله حبًّا كبيرًا، فقد روى أنه قال للنبي : يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال له النبي : ” أنت مع مَنْ أحببت يا أبا ذر ” فقال أبو ذر: فإني أحب الله ورسوله، فقال له النبي : ” أنت مع مَن أحببت ” رواه أحمد
وكان يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده فيسأل عنه إذا غاب ، وقد أحب أبو ذر العلم والتعلم والتبحر في الدين وعلومه، وقال عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعى أبو ذر علمًا عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه فلم يخرج شيئًا منه ، وكان يقول: لباب يتعلمه الرجل من العلم خير له من ألف ركعة تطوعًا .
وكان رضي الله عنه ، زاهدًا في الدنيا غير متعلق بها لا يأخذ منها إلا كما يأخذ المسافر من الزاد، فقال عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ” أبو ذر يمشى في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام ” رواه الترمذي .
وأقام أبو ذر في باديته حتى مضت بدر و أحد و الخندق ثم قدم على المدينة وانقطع ، وخصص نفسه لصحبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه في أن يقوم على خدمته فأذن له ونعم بصحبته وسعد بخدمته وظل رسول الله صلوات الله عليه يؤثره ويكرمه ، فما لقيه مرةً إلا صافحه وهش في وجه وبش ، وابتسم له وأظهر السرور للقائه .
ولما لحق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم يطق أبو ذر صبرا على الإقامة في المدينة المنورة بعد أن خلت من سيدها وأقفرت من هدي مجالسه ، فرحل إلى بادية الشام وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهما وعنه .
وكان أبو زر يحارب اكتناز المال ويقول بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة ، وكان يدافع عن الفقراء، ويطلب من الأغنياء أن يعطوهم حقهم من الزكاة ، لذلك سُمي بمحامي الفقراء، ولما عرض عليه عثمان بن عفان أن يبقى معه ويعطيه ما يريد، قال له:
لا حاجة لي في دنياكم ، وعندما ذهب أبو ذر إلى الرَّبذة وجد أميرها غلامًا أسود عيَّنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولما أقيمت الصلاة، قال الغلام لأبي ذر: تقدم يا أبا ذر، وتراجع الغلام إلى الخلف، فقال أبو ذر، بل تقدم أنت، فإن رسول الله أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا أسود.
فتقدم الغلام وصلى أبو ذر خلفه ، وظل أبو ذر مقيمًا في الرَّبَذَة هو وزوجته وغلامه حتى مرض مرض الموت فأخذت زوجته تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ومالي لا أبكي وأنت تموت بصحراء من الأرض، وليس عندي ثوب أكفنك فيه، ولا أستطيع وحدي القيام بجهازك، فقال أبو ذر: إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا: هذا أبو ذر.
فلما مات فعلا ما أمر به، فمرَّ بهم عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله : يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده ، فصلى عليه، ودفنه بنفسه ، وكان ذلك سنة 31هـجريه .
التعليقات مغلقة.