الطبيعة الثرية للقصة القصيرة في نص “قصتي السجينة “للأديب محمد كمال سالم برؤية الناقد أحمد طنطاوي
اقرأوا لو سمحتم هذه التحفة الأدبية للأستاذ محمد كمال سالم
” قصتي السجينة”
كنت أشعر أنني؛
كشجرة زُرعَت صدفة، بأرض في غير موطنها.
ك عزير عاد بعد مائة عام، غريبًا بين قومه.
أصر أبنائي على اصطحابي إلى أحد
الشواطئ الساحرة من حدودنا الشرقية، وكنت قد أقلعت عن مثل هذه الرحلات منذ بضع سنوات.
أغراني للنزول على رغبتهم؛ أنها المرة الأولى، التي لن أتكبد فيها
مشقة الإعداد والتجهيز للرحلة،
بل منذ عقود طويلة لم أشعر
أن أحدا تكفل بشيء كان المفروض
أن أقوم أنا به.
راق لي هذا التدليل
والاهتمام الذي بدا منهم تجاهي
مؤخرًا.
ربما ظنوا أني مودعهم قريبًا، ربما.
أو لعلهم أدركوا أنني لا أجيد إعداد رحلاتهم كما ينبغي……ربما.
على الشاطئ وجدتني،،كنت قد
نسيتني، وجدت أني مازلت قادرا
على الاستنشاق بعمق، وأني مازلت
قادرا على الغناء بطريقة سليمة،
قادرا على الضحك، على استدراج
الذكريات السعيدة وأطفالي مازالوا صغارًا، والذكريات الشجية أيضًا تذكرتها.
شجعني هذا المناخ أن أكتب قصتي الحقيقية، التي لم أجرؤ يومًا علي ذكرها، أو الإفصاح عنها
حتى لصفحاتي البيضاء، أو أن ينبس قلمي ببنت شفة من سطورها.
أنهيتها في تدفق، كأني كنت قد كتبتها من قبل، في سرد شيق مسترسل دون أن أشطب أو أعيد صياغة جملة واحدة.
وضعتها أمامي أتأملها، أعدت قراءتها مرة تلو المرة، دُهشت لجرأتي، تحسبت لوقعها عند من يعرفني، قلت لنفسي:
أخيرًا فعلتها.
ها أنت قد تَعريت،،خلعت عنك ورقة التوت التي تواري سوءتك!
هل تُراك قادرًا على إذاعتها؟
أو تودعها وثيقة سرية لدى أحدهم؟
لم أجد إلا إجابة واحدة لتساؤلي،
وخلاصة واحدة تخفف تدفق تهوري!
ذهبت إلي الشاطئ عندما جن الليل
وانتصف، كان هواؤه يعانقني، وكأنه يشجعني على فعلتي.
وضعت قصتي في زجاجة، أحكمت
غطاءها،،ملأت يدي قوة، أرجحتها في الهواء بضع مرات، ثم ألقيت بالزجاجة بكل قوتي لأبعد مكان في
البحر.
شعُرت حينها أني قد ألقيت عبئًا
ثقيلًا، كان يجثم فوق صدري.
تنفست الصعداء، أخيرًا وجدت من
أستطيع أن ألقي إليه بسري في الدنيا، ولا أغادر به.
انتهت رحلتنا السعيدة، لملمنا متاعنا
وأشياءنا، الأيام السعيدة تمر سريعا.
طلبَت إحدى بناتي أن نودع الشاطئ الجميل والبحر الذي يعاند
السماء ويباريها في زُرقتها.
وقفنا علي الشاطئ حفاة، يدغدغ
الموج الهادئ أقدامنا.
وإذا بالزجاجة وقصتي يتمسحان بقدمي.
الرؤية النقدية للأستاذ أحمد طنطاوي :
قراءة لقصة الأستاذ \ محمد كمال سالم
” قصتى السجينة “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قنينة على شاطىء
ــــــــــــــــــــــــــــ
الرسائل المحفوظة في زجاجات تتلاعب بها
أمواج البحر بعد إلقائها فيه تيمة بالغة
الدهشة و الروعة و الخيال الفانتازى العميق .
تُلقى حاملة ســــــرها و غموضها الرمادى ،
لا يُعرف أين و متى و من ســــيجدها و يقرأ
مرافئها و يقف عند تخومها المجهولة بما
تحوية من أسرار كبرى غالبًا .
الرسائل تلك المحفوظة في زجاجات ,
و السابحة إلى أن يلتقطها لاقط ، قد تحوى
أيضًا غموض أمور جرت كقتل أو
أحداث مخيفة مرعبــــــة و كتبت قبل
نهايـــة أصحابها التي غالبًا ما تكون بالغة
العنف أو الغموض كما في رائعة الكاتب
الأميركى العبقرى ” إدجار آلان بو ” :
[ مخطوطـــــة وجدت في قنينة ]
و إلقاء المُحتبس داخل النفس ، و التخلص من
عبء كتمان طال هى أيضًا مسألة نتوقف
عندها كثيرًا ، فهى كانطلاقة السجين من أسـر
طال مكوثه فيه … و الآن ها هو قد تحرر .
مقدمة قصتنا ترسم إنسانًا مجهدًا
يحمل ماضيه المفعم بأسرار ينوء
بها كاهله … تؤرقه زوايا خبيئة
بالذاكرة و تكتم أنفاس طمأنينة يتوق
إليها لو أنها خرجت و أذيعت ، لكن مواجهة
الآخرين بالخبايا التي حرصنا عليها زمنًا
ليست بالأمر الهين ، و شجاعتنا تخور
حتمًا أمام عواقب الانكشاف الفجائى ،
و ما سيترتب عليه من عوائق و عثرات
و انكسارات لا يُعلم مداها .
فهى إذا مطرقة و سندان : عبء ما يرزح ،
و صعوبة عواصف قادمة متوقعة ..
كتمانٌ قاسٍ ثقيل , و رياح هوجاء تطيح،
والحل الوسط السحرى الرائع الوهمى
هو أن نحقق الأمرين معًا : الإذاعة
و الأمان … هكذا يتوهم من يرى هذا ..
نستخرج ما خٌفى و نزيحه من طريقنا ،
و يظل مخفيًا في نفس الوقت عبر هذه
الأوراق العائمة في بحر شاسع تؤرجها
أمواج بعيدة المنال عن أيادى البطش ،
لكن ليت الأمر بهذه البساطة .
فــ”كل انسان ألزمناه طائره في عنقه “هي
القاعدة القرآنية فيما يتصل بما جرى
في الماضى ، و سيتم الحساب سواء
أخفيناه أم أعلناه , و قد يوجد في عقيدة
ما خلاص يحققه كرسى الإعتراف ، لكن
هذا لا يتحقق في عقيدة المسلمين ..
إلقاء أعباء الضمير في كهوف الغياهب
لن يمحوها ، حتى عن جوهر الضمير ذاته ،
و لن يريحه من هذا العذاب .
قصتنا هذه بطلها ، للأسف ، لم ينل هذه
المكأفاة ، بل كان كــ ” سيزيف” ،
أبدًا ســــــــيعانى آلامه و لن يتاح له
التخلص و التحرر من قدره العاتى ،
و حكم الزمن القاسى بالمعاناة .
و قد أجاد رسم هذا ببراعة فائقة ” إدجار آلان
بو” في رائعته ( القلب الواشى ، أو القلب الذى
كشف السر في ترجمة أخرى للعنوان )
قتَل و أخفى الجثة تحت أخشاب الغرفة ،
و لم يعثر البوليس على شيء لكن
خفقانا بغيضًا كان يرج أركان نفسه
حتى صرخ فيهم معلنا عن جريمته
“واستمر الصوت.. يعلو.. ويعلو.. ويعلو ..
وشعرت أنه يجب علي أن اصرخ أو أن أموت ولكن.. ولكن.. مرة
أخرى.. أسمع الصوت.. أعلى.. فأعلى.. ثم أعلى ..
“أيها الأشرار.. أيها المنافقون الكاذبون”
هكذا صرخت فيهم بكل قوتي “لا أريد
المزيد من هذا النفاق الزائف.. أي أعترف
بما فعلته.. كسِّروا هذه الألواح الخشبية..
هنا هنا.. فقط يوجد ..هذا هذا.. الخفقان
البغيض ” .
كما رسم ببراعة فائقة أيضًا قهر الإخفاء
و الرغبة الداخلية العارمة في الاعتراف
في قصته الشهيرة “القط الأسود ” ..
بسبب ادمانه الخمر ، ساءت حالته
النفسية جدًا وفى سورة غضب اقتلع
عين قطه الحبيب ثم ساءت حالته أكثر
فقتل زوجته في نوبة غضب عارمة أخرى
و دفنها في جدارالقبو و بنى عليها
الأحجاركما كان الرهبان في القرون
الوسطى يدفنون ضحاياهم في الجدران
فى وضع الوقوف ، و أيضًا حين جاء
البوليس و فتشوا لم يجدوا شيئًا ، لكنه
استوقفهم و هم يرحلون قائلا لهم في
تفاخر :
“’’أيها السادة هذا بيت مكين البناء ،
إنه بيت مبني بشكل ممتاز. هذه الجدران
هاأنتم ذاهبون أيها السادة- هذه الجدران
متماسكة تماماً
وهنا ، وبنوع من الزهو المتشنج- طرقتُ
طرقاً قوياً على الجدار بعصا كانت بيدي،
تماماً في الموضع الذي أخفيت فيه زوجة
قلبي “
سُمع حينها صراخ و عويل يأتى من الجدران ،
فلما هدمته سواعد رجال الشرطة وجدوا
جثة الزوجة واقفة منتصبة، و القط بعينه
الواحدة يقف فوق رأسها .
و في اقتراب مشابه كانت رواية دوستويفسكى
الكبيرة (الجريمة و العقاب ).
و في نصنا هذا تتجلى تلك اللحظة الفارقة
التي ينسلخ المرء فيها عن تحفظاته
في رغبة عارمة جنونية للانطلاق تظهرها هذه التدفقات :
** “ها أنت قد تَعريت،،خلعت عنك ورقة
التوت التي تواري سوءتك!”
** ” تدفق تهوري “
** “أخيرًا فعلتها”
** ” دُهشت لجرأتي، تحسبت لوقعها عند
من يعرفني “
الآن قد تحرربطل النص _ أو ظن ذلك في إراحة لنفسه _ فعثرات الماضى تقف دائمًا حائلا بين مسارين .
فنيًا :
ــــــــــ
حجم الكتل التي تفترض التساوى و التناسب
النسبى بين الوحداث الثلاث :المقدمة
و الوسط و النهاية في التركيبة التقليدية
تغيرت مع التحديثات و التطورات المعاصرة ،
فيمكن أن تسير التموجات هادئة ناعمة
في الوحدتين الأولتين دونما تحديدات قاطعة،
ثم فجأة ، في خاتمة سريعة كالبرق يحدث التفجر التنويرى .
و على هذا فإن ما يظهر في هذا التغير يمس
بالأساس نقطة الذروة أو رأس المثلث الذى
يفصل بين الخط الصاعد و الخط الهابط إلى لحظة التنوير النهائية تلك ، بالإضافة إلى الشعرية الظاهرة او الباطنة المخفية داخل النص ككل و التي تشع في مجمله النهائي .
كما تبدو جليا ً_ قى هذا النص_ غاية التطهير الأرسطى والتي تؤججها الشفقة على مصير
البطل في الخاتمة ، و ما آل إليه من استحالة
هروبه الذى توهم أنه قد تحقق .
الاستهلال أدخلنا مباشرة عمق الحدث …
رب الأسرة الذاهبة للمصيف رجل يحمل
جزءًا من ماضٍ مثقل ممتلىء مجهول يؤرقه ؛
أظهرت عتبة القصة ملامح هذا الأرق الداخلى
و كأننا نلمح في الأفق رغبة
تعتمل.. تنادى عقابًا للنفس و إدانتها للتحرر
تطهيرًا :
” كنت أشعر أنني؛
كشجرة زُرعَت صدفة، بأرض في غير موطنها.
ك عزير عاد بعد مائة عام، غريبًا بين قومه”
” على الشاطئ وجدتني،،كنت قد
نسيتني، وجدت أني مازلت قادرا
على الاستنشاق بعمق”
فلننظر لأثر الجو المرتبط عضويًا بمجرى الحدث
و توظيفه لإحداث الأثر النفسى الذى يريده للقارىء في مغزى اختيار الشاطئ حيث سعة البحر و السماء و التحرر من بروتوكولات التصنع ،
هذه الخلفية التى طرحها الكاتب لقصته بما تثيره من هذه المعانى هى خلفية ترتبط عضويًا بشكل تام بشخصية البطل ور غبته الداخلية الحبيسة ، هو وصف يجعلنا نتفهم تفجر هذا الإصرار لديه
الذى لا شك كان ينتظر فرصة مواتية كهذه تشجعه على الانسلاخ من قواعد قيدته قبلا ، و الآن ،على هذه الرمال و هذا البحر، يريد أن يتخلص من أسرها و يكسر القيد ، نحن الآن ببراعة الكاتب تدرجًا في السرد نشعر و كأننا ( داخل المشهد ).. نحس الرغبة معه في التحرر و الانطلاق و المكاشفة .
القصة القصيرة .. ( موقف واحد ) مكثف و مركز .. صخرة واحدة في صحراء يُلقى عليها الضوء بمفردها لاكتشاف طبيعتها الداخلية ، أو شجرة واحدة فى حديقة نتفحصها جيدًا ..
إنها (بقعة توضع تحت الميكروسكوب ) لمعرفة جزئياتها الدقيقة بعكس الرواية التي أساسها الامتداد
بكل عناصره زمانيًا و مكانيًا و حدثيًا و تعدد للشخصيات.
أما لحظة التنوير فهى مكتملة و مضيئة بالفعل
صارخة أن : لا مهرب من الماضى الذى يظل لصيقًا
و حركيًا … مثَّلت الاكتمال الحكائى ملونًا :
القصة سجينة الزجاجة ، و هو سجين ماضيه الذى يأبى أن يفارقه . فحققت الخاتمة القدر الإغريقى كما كانت تجسده الدراما التقليدية .
القصة نموذج رائع للقصة القصيرة ، و مثال كتابى
جسَّد طبيعتها الثرية .
( أحمد طنطاوى ) \ سبتمبر 2021
التعليقات مغلقة.