الطيب والشرس والقبيح بقلم محمد كمال سالم
لي عدد من السنين لم آت إلي حينا القديم،حيث الشارع التجاري العتيق.
عانقت عيناي الجدران القديمة،هي تعرفني،لي معها الكثير من المشاهد،حتي الدروب التي بدلوا أرضيتها السوداء بتلك البلاطات الإسمنتية الملونة،كأني وطأتها بالأمس،قدماي تحفظها.
أتفرس الوجوه علها تعرفني،كلها غريبة،إلا قليل مِن مَن ظل منهم هنا، ينظر إليّ،،يسائل نفسه،هل هذا فلان إبن فلان؟
تخطيت المحال قاصدًا دُكان أحد أقربائي،فلم أجده،ولكني أرسلت من يعمل لديه في طلبه.
جلست أمام المحل أنتظره،أراقب المارة،المحال التي أحفظها وأعرف أصحابها،، وأبعادها وحدودها مع كل جار،فقد كنا يومًا ما، بعض من هذا المكان،إلا أن قسوة الحياة التجارية، التي لا تعرف إلا عاطفة المال،لم تناسبنا أنا وأشقائي،مر بعض قدماء الحي،رحبوا بي ترحيبًا حارًا في عُجالة،ليس لديهم الكثير من الوقت للأشواق.
راح اهتمامي لهذا المحل الكبير في مواجهتي،أبحث بناظري عن صاحبه
فما وجدت إلا امرأة هرمةً مهزومة،تقبع في أحد أركانه البعيدة،
تذكرت صاحبه القديم( الحاج عبد اللطيف) كان رجلًا طيبًا يحبه أهل الشارع،وكان صديقًا لأبي،أتذكر كيف كانت نهايته،لما مرَت به ضائقة،وتعثر في تجارته،فاضطر إلي مشاركة ( فوزي القشاط ) كان مجرد سمسار بالشارع،اشتهر بالفهلوة والبلطجة،يلتقط الزبائن من ناصية الشارع،يبيعهم من محال لا يملكها،نظير أتاوة يقبضها من أصاحبها.
أذكر أن أبي قد حذر الحاج عبد اللطيف من مشاركة القشاط،ولكن يبدو أن الرجل لم يجد غيره.
كان للقشاط إبنةٌ وحيدة،، اشتهرت في الحي بجمالها الفاتن،وتدليلها أيضًا من أبيها،،الذي كان لا يظهر عاطفة إنسانية إلا لها،كان يبرر كل سلوك فيه جور علي الغير،إنه من أجل ابنته،حتي أشيع أن زوجته لم تحتمل قسوته فهجرته.
راج محل الحاج عبد اللطيف،وانتعشت تجارته،فاستعان القشاط بصبي يدعى( حنفي قضية) الذي كان علي شاكلته،ليستعين به علي أعمال المحل.
ولما كانا ( القشاط وقضية) من أشر الخلق بالحي،دبرا أمرًا بليل،وأصبحا يعلنان للناس أن المحل أصبح ملكهما وحدهما،وأنهما اشتريا نصيب الحاج عبد اللطيف!!
إعتزل الحاج عبد اللطيف الناس والشارع،إلا من المسجد الذي أخبر أقرانه فيه: إنه تم النصب عليه في المحل وإنه ينتوي أن يهجر الشارع،ولم يلبث كثيرًا بعدها،حتي مات وهجر الدنيا كلها.
تركت أنا الشارع في تلك الأثناء،والقشاط وصاحبه قضية،يتربعان علي عرش المحل،بل والتجارة في الشارع.
جاء قريبي أخيرًا الذي قصدت زيارته،وكان لقاءً حارًا يناسب المحبة ، وسنوات الغياب،فقد كان ( نادر) حبيبي وأخي في الرضاع
نادر: ما الذي ذكرك بنا؟
قلت:شدني إليك ما بيننا من رحم أخي،وما علق بالذاكرة من ذكريات لهونا في صغرنا.
قال: فيك الخير،أصبح الحي كما ترى،يمتلئ بمسوخٍ بلا أرواح.
أشرت إلي المحل المقابل وسألته:
أين الشرس والقبيح،ومن تلك المرأة تجلس هناك؟
قال:فوزي القشاط وجد مقتولًا فجر أحد الأيام، في عطفة صغيرة،تبرأ حنفي قضية من دمه بعد تحقيقات النيابة.
سألته: وابنته الفاتنة،ماذا كان مصيرها؟!!
قال: هي من سألت عنها،تجلس في ركن المحل هناك،أجبرناه نحن تجار الشارع أن يُبقي عليها،تقتات رزقها،بعد أن أثبت ملكيته للمحل وحده،وبعد أن اختفت أمها وصارت وحيدة،ثم أصدر تنهيدة طويلة وهو يناولني كوب العصير وقال: كانت زريته الضعيفة التي خاف عليها.
ودعت صديقي وقريبي علي غير موعد بلقاء،وعند مغادرتي الشارع،رأيت حنفي قضية في طريقه للمحل،يزحف تحت وطأة حمل بدانته،نظر إلي نظرة مرتاب،لم أعره انتباهي،واسترعى انتباهي طائر الغراب يُحلِق فوقه.
التعليقات مغلقة.