الظليمة بقلم مهدي الجابري
الظليمة بقلم مهدي الجابري
أحكمت أم حامد قبضتها على السنابل كأنها جمال صفر! أو كأنه خصلة شعر فتاة شقراء! وهي مزهوة بموسم وفير، آلت على نفسها أن تطعم عائلتها من رز( العنبر) (١)الجديد فرائحته الشهية يشمها القادم من بعيد
عدلت عصابتها نهضت الى العمل وهي سعيدة تغمرها فرحة بنعمة حباها الله لهم من اكتفاء ذاتي للغذاء، وجهها الجميل المبتسم الوشم القديم الذي يزين جبينها ووجنتيها، في يدها عصا أخذت تضرب بها السنابل المليئة حتى تتفرد حباتها كأنها ذهب مصفى، وهي تردد:( من خيرهم حسنه ودسنة وبفي مكاسرهم أنعسنى)(٢) أمسكت المجرشة المصنوعة من الطين وهي تغرد بصوتها( أبعدو عنه وفاركونه.. أحبابنا يمكن نسونه )(٣)جرشت الرز، ثم أحالته الى( الجاون)(٤) لهبشه، أتمت تحضير الرز الجديد .
من بعيد جاء صوت ابن ابنها حامد؟
جدة لقد جاء أبي.
- ” هله يمه گواك الله”(٥)
-” كان صيد سمك البني وفير”
-” غداكم اليوم مطبگ سمج وتمن جديد يمه”(٦)
-” هذه أمنيتي وأنا اصطاد السمك”
-” يمه روح نادي أبوك واخوتك يتغدون”(٧) - ” أجلب لكم التمر الخضراوي
-” يمه أخوك راح يجيب خضرة من البستان”
-” أبي كان صيده طيور حرة مهاجرة” - ” الطيور للعشاء، رحمة ربي خير ونعمة..لك الحمد يا الله” بعصاها الطويلة أخذت تهش البط لتنزله الى النهر، بيدها توزع العلف على الأبقار والدواجن وهي مسرورة.
“الماء والخضرة والوجه الحسن”
تعيشها مع جمال طبيعة أقصى جنوب ذي قار، الأنهار الجميلة؛ ماء الفرات بكدرته الطينية الحمراء، ووجوه الفتيات الحسان حفيداتها وبنات جيرانها.
الأنهار تجري بماء عذب، كأنها بطون حيات، وعنده يكثر الصيادون.
كان هذا في العقد الثامن من القرن العشرين، حين كان يزهو الفرات ويتبختر دجلة، ويرفل الجنوب في أكناف الخير.
ولكن ، وعلى حين غرة داهم القرية مخطط التطوير، أفسد كل ماهو جميل، جفف الأهوار، قطع أوصالها، بنى سدوداً ترابية تعلو الهامات، مات الزرع والحرث والنسل، ضاع الإستقرار وأصبح الخوف يتراءى في عيون البشر، جوع،تهجير، قتل.
لوح حامد بيدة مسرعاً وهو عائد الى امه :
أمي …أمي ..جاؤوا ….جاؤونا ، مدجين بالسلاح.
-” احملو سلاحكم وعتادكم”
- “سأدعو أبي وأخوتي”
- “وجهّوا سلاحكم على من يعتدي عليكم”
أمي اجعلي العيال في مأمن، نحن الرجال للقتال.
المقاومة شديدة، أزير الرصاص يعلو على أي صوت، المهاجمون لايميزون بين صغير وكبير، وبين إنسان وحجر ، همهم القتل والتدمير.
صرخت أم حامد
ابوك(٨) ياحامد، أبوك قُتل!
ركضت، حملت سلاحه، شدت حزامها، قاتلت قتال الأبطال، طوق المهاجمون الدار، فرّ حامد هاربا الى الهور، اقتادوا أم حامد وعائلتها للسجن،
سلّم نفسه حامد مقابل إخلاء سبيل العائلة.
هُجرت العائلة بعيدا
بكت أم حامد حنّت وأنَتْ:
لماذا حصل هذا وبأي ذنب؟! حضنت شجرة البرتقال في مدينة بعيدة وهي تئن ( أبعدو عنه وفاركونه.. أحبابنا يمكن نسونه)(٩) وجهّت وجهها صوب مدينتها، أجهشت ببكاء مرّ، وصاحت بصوت عالٍ:
” ياللظليمة”.
. انتهت.
مهدي الجابري.. العراق
(١) نوع من انواع الرز.
(٢) اشبه بالمواويل ترددها النساء اثناء العمل وهي معناها: من الخير طرنا فرحا وسرور وجلسنا تحت ظل البيوت الجميلة للاهل.(3) موال حزين معناه: الاحباب اصبحوا بفراق بعيد.. وتقصد به الموت.
(٤) قطعة من الخشب محفورة من الداخل يوضع الرز ويضرب بعمود من الخشب ايضا لتخليص الرز من القشرة الداخلية بعد تتم ازالت القشرة الخارجية بواسطة المجرشة وهي مصنوعة من الطين بطوقين اعلى واسفل وتدار في اليد بواسطة قطب..
(٥) كلمة ترحيبية
(٦) تدعوهم الى غداء رز وسمك
والمطبق : بعد استواء السمك مقليا يوضع فوقه الرز .
(٧) ادعوا والدك واخوانك للغداء
(٨) والدك
(٩) موال حزين معناه: الاحباب اصبحوا بفراق بعيد.. وتقصد به الموت.
التعليقات مغلقة.