العذراء
بقلم سيد جعيتم
أخرج متعلقاتي، أرتبها ، فهذا يومي الأول كطبيب بالوحدة الصحية لإحدى القري النائية في صعيد مصر الجوانى.
لم يكن قد مر على وجودي أكثر من ساعة بعد استلام الوحدة من الطبيب الذي انتهت مدة تكليفه.
يخبرني التومرجي بأن خفير العمدة الخصوصي جاء ليصطحبني لتوقيع الكشف الطبي على مريض ببيته. في الطريق أخذت أعد نفسي للمقابلة فلا بد من ظهوري بمظهر الواثق من نفسه، وقد تؤثر هذه المقابلة علي فترة تواجدي بالبلدة، وأكيد الحظ خدمني أن يكون أول تعامل لي بالبلدة مع عمدتها.
سلمني الخفير على باب دوار العمدة الخارجي لخفير سلمني بدوره لحضرة العمدة.
لفت نظري كم الخفراء وكلهم يحملون بنادقهم على أكتافهم وقد بدوا لي متماثلين في الشكل واللون الأسمر الشارب من الشمس والقوة الجسمانية، وعمامة فوق الرأس، وشنب يغطي نصف وجههم الأسفل.
كان العمدة يجلس وحده، لم أرتح لمرأى العمدة فوجهه ممتقع متجهم عابس حاد النظرات، أشار للخفير بالانصراف.
رحب بي بكلمات مقتضبة، أمرني بالجلوس، سألني عن اسمي ثم قال بصوت خفيض:
ـ يا دكتور عصام استدعيتك لتوقيع الكشف على أبنتي وتحديد هل هي بنت بنوت.
الجمتني المفاجأة التي لم أكن مستعد لها، الرجل نقل الخبر مباشرة وكأنه يهوي علي أم راسي بحجر كبير. تحملت الصدمة وتعمدت أن أكون رابط الجأش. التزمت الصمت ولم أنطق بالرد، كنت مغيبا تماما.فأنا أعلم حساسية هذا الموضوع خاصة في صعيد مصر أيقظني العمدة من سُبات فكري وهو ينادي على زوجته، وقال بصوت آمر.
ـ ما يحدث في الدوار وما ستراه يا دكتور سر نأتمنك عليه، نظر في عيني فشعرت أنه تخلل أعماقي، وقال :
ـ تذكر أننا صعايدة، لنا عاداتنا وتقاليدنا، وهذا الموضع هو قمة العار، لو تم إفشاء السر فالموت هو الجزاء، ثم تطرق بنظرة للأرض .
تعاركت الأفكار في عقلي، لقد فُرض علي هذا الموضوع ولا ناقة لي ولا جمل فيه، تهديد الرجل جعلني مذبذب الفكر ، لوهلة فكرت أن أحتج وأنسحب، شعرت مع صمته بثقل الحمل الذي يفوق كاهله وأنني أصبحت شريكًا معه في ما يحمله، فضلت السكوت.
أصطحبتني زوجته لحجرة داخلية مظلمة، سرت قشعريرة في جسدي، حاولت أن أتماسك، أضاءت نور الحجرة. فتاة في العشرين من عمرها ملقاه في ركن الحجرة، تبدوا عليها آثار ضرب وتعذيب، أغلقت الأم الباب وأخبرتها : ـ دكتور الوحدة الصحية جاي يكشف عليكِ . نظرت الفتاة لأمها في استرحام، رأيت الشفقة في عين أمها ثم فجأة احتضنت ابنتها وبكت .
ابتلعت ريقي وبصوت متهدج وجهت حديثي للفتاة : ـ أنا الدكتور عصام دكتور الوحدة الجديد.
نظرت لأمها وقالت :
ـ ها تعريني وتهتكي ستري أمام رجل غريب
. ـ أبوكِ حالف ليقتلك، لو الدكتور قال إنك مش بنت بنوت.
أظلمت الدنيا في وجهي، ومادت بي الأرض، للمرة الثانية فكرت في الانسحاب.
بتحدٍ نظرت الفتاة إلي، تضاءلت في داخلي أمام نظراتها، قالت
: ـ ليس لدي ما اخسره أكثر من حياتي، يا دكتور، أنا متجوزة عرفي من زميل في الجامعة، يعني مش عذراء. شهقت الأم ولطمتها علي وجهها، وقالت : ـ جلبت لنا العار يا فاجرة، أنا اللي ها أقتلك بأيدي بدل ما يروح الرجال في داهية بسببك، ثم انخرطت في البكاء والنحيب.
استمرت الابنة في توجيه حديثها إلي بنفس نبرة التحدي. ـ فيه فرصة إن جوازنا يتحول لرسمي لكن لو أبويا عرف اني مش بنت بنوت ها يقتلني قبل ما تخرج أنت من الدوار، ها اندبح يا دكتور زي البهيمة، وأنت ما دام عرفت السر أكيد مش ها تخرج من هنا حي. كانت كلماتها صفعات على عقلي، شل تفكيري دارت الحجرة بي، وكدت أن أسقط، استندت على الجدار. نظرت لأمها بمذلة واستعطاف وقالت:
ـ استري علي يا أمي.
لم أنطق، توجهت مع أمها للباب، تلقانا العمدة ممتقع الوجه ينتظرني وكأنني حبل النجاة الممدود له وسط دوامة من الصراع النفسي. استجمعت شجاعتي.
ـ بنتك زي الفل يا حضرة العمدة، لم يمسسها أحد. في القطار المتوجه للقاهرة فجر اليوم التالي كنت جالس.
بقلم: سيد جعيتم
جمهورية مصر العربية
التعليقات مغلقة.