العصفور… مجدى سالم
العصفور…
بقلم مجدي سـالم
والتقيا عند الباب..
كانت ترفل في فستانها الحريري الأزرق الذي يعشقه.. ينساب شعرها الفاحم على ظهرها.. وتزيد زينتها الراقية من جمالها.. شعر وكأنها أميرته الليلة.. كم بات يحلم بهذا اليوم.. قبلت أخيرا أن تصحبه إلى السينما لمشاهدة الفيلم الشهير.. تعب في إقناعها أن عليها أن تجد حجة تسوقها لأمها كي تغيب عن البيت.. سيشاهدان الفيلم سويا ثم عليه أن يقنعها بعد العرض أن يتناولا طعام العشاء سويا في أي من مطاعم وسط البلد.. كان سعيدا تأخذه الفرحة إلى عنان السماء فهذه أول مرة يذهبان فيها إلى السينما.. وأن يشاهدا هذا العرض سويا وقد تحدث الناس عن الفيلم طويلا.. حتى صار موضوعه محور النقاش في الجرائد اليومية.. قال لها وهو يستقبلها بابتسامة نقلت إليها مدى سعادته بلقائها …
- أصل المخرج ده غاوي مشاكل.. بيلعب في مخي والناس غاوية جدل..
كانت الردهة الأمامية وصالة المدخل للسينما تكتظ بالناس.. العديد منهم يتزاحمون عند فترينات العرض التي تعرض مشاهد بالأبيض والأسود مصورة من الطبيعة لمقاطع أثناء تصوير الفيلم الشهير.. تتعالى تعليقات الجميع.. توحي مناقشاتهم بأنهم بالفعل يتفاعلون مع حدث ضخم.. وليس مجرد فيلم سينمائي.. تعالت أصوات بعض من يصطفون عند شباك التذاكر.. يفهم من صياحهم أن التذاكر قد نفدَت …نظر إليها نظرة المنتصر.. لقد أتاها بما يعجز الآخرون الآن عنه.. أشاحت بوجهها كمن لم يفهم.. سارعت ترفع يدها تعيد تصفيف شعرها بأطراف أناملها بدلال مصطنع.. حاول أن يمسك بكفها يتلمس أطراف أناملها.. ابتسمت وأبعدت يده بلطف.. دفعته باتجاه مدخل صالة العرض..
وعبرا الباب..
حين وصلا بمساعدة الموظف الوسيم إلى مقعديهما كان العرض قد بدأ بالفعل.. بدأ عرض الأسماء مع مشاهد من أحداث ساخنة من الفيلم.. لفت نظره أن الموسيقى التصويرية خافتة جدا.. إنه يهتم بهذه التفاصيل.. بدأت أحداث الفيلم سريعا.. كان بالكاد يميز الحوار الدائر بين أناس على الشاشة وقد بدأ العرض بحديث بينهم.. أوووه.. كيف لمخرج بهذه السمعة أن ينتج حوارا غير مسموع ولا مفهوم إلى هذا الحد.. تلفت حوله.. كان الجميع مستغرقين في المشاهدة.. أو ربما كانوا يحاولون أن يسترقوا السمع كي يميزوا الحوار الدائر على الشاشة.. لكن سارت الأحداث..
انتهز الفرصة ووضع يده على ظهر المقعد المجاور.. تعمد أن تمس أطراف أصابعه كتف رفيقته وبعضا من خصل شعرها.. نظرت إليه كمن ينهره لكنه اصطنع البلاهة وأنه مستغرق في مشاهدة الفيلم..
مضت دقائق تلو دقائق من العرض.. تسارعت أحداث الفيلم فما لبثت حتى بدأت تأخذ منحى الجد وبسرعة فائقة.. بدأت الهمهمة تسري في صالة العرض.. ثم بدأ البعض في التصايح.. البعض بعبارات الإعجاب.. والبعض الآخر يعبر بهتاف إستهجان.. تعالت الأصوات… - أيوه.. البلد بتغرق في الحرب.. ودول بيسرقونا.. وتولع البلد..
- بص بيعملوا إيه.. بالذمة دول رايحين عشان الحشيش.. هما ناقصين فلوس.؟
- هوا حد راح الصعيد اللي بيصوروه ده.. ياعم دي عالم ضايعة…
تفاعل بشدة مع عصفور البطلة المحبوس في القفص يتضور جوعا.. المجرمون يروعون عائلتها بالتهديد باغتصابها.. تجري الأحداث.. يتاجرون بكل شيء.. يعلو صوت الأغاني الهابطة في الخلفية.. صور لأناس تترنح وآخرين يرقصون.. وراقصة تتمايل.. يسقط العصفور.. لم يتمالك نفسه وهو ينفعل بشدة مع تعليقات الناس.. أحداث الفيلم كانت تعمق جراحه.. شيئا فشيئا هاجت الوطنية المشتعلة في أعماقه.. إن بلده وما يجري فيها هو همه الأول.. والأمر فيها قد استفحل حتى طال حياته ومستقبله.. حتى أنه بات غير قادر على إتمام مجرد خطوبة تربطه بحبيبته التي يتمناها زوجة له.. حتى محاولات الهجرة باءت بالفشل..
دارت أحداث الفيلم لدقائق جديدة.. إنهم لا يجدون الضروريات إلا بالطوابير المذلة.. زاد انفعاله حتى شعر أن الدم الساخن يسري في عروقه ثم يهيج في فروة رأسه.. مالبث أن بدأ يشارك في الحوار الدائر بين الناس.. استدار أحدهم ووجه الحديث إليه رغم أنه لا يميز ملامحه.. صار الحوار نقاشا جماعيا وسبابًا فمشاجرات ومشاحنات.. تعالت الأصوات ووقف الكثيرون حتى حالوا بين المشاهدين وشاشة العرض.. تعلقت بملابسه بينما وقف وقد تجسدت كل مصاعب حياته أمام عينيه غير عابئ بها.. استداربطل الفيلم ليصفع أحدهم في غضب وحنق وعنفوان.. تعالى الصراخ هنا وهناك.. تدافع البعض يشتبكون يتصايحون يتشاجرون.. تصبَّب عرقه، ودارت عيناه علا صوته وأصواتهم.. يندفع الناس خارجين جماعات تتظاهر.. انفتح باب القفص وطار العصفور..
افترقا عند الباب… لم يتوادعا..
التعليقات مغلقة.