الغرور و الكبر و صاحب الجنتين..بقلم محمد الدكروي
الغرور والكبر وصاحب الجنتين
بقلم / محمـــــد الدكــــرورى
قصةُ رجلينِ ، أحدُهما مؤمنٌ بربِّهِ، ومتمسِّكٌ بمبادِئِهِ، والآخرُ كافرٌ بربِّهِ، وجاحدٌ نعمَ اللهِ عليهِ، قصةٌ تُجسدُ واقعاً معاشاً في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، مسلمٌ وكافرٌ، حقٌ وباطلٌ، قيمٌ راسخةٌ، وأخرى باطلةٌ، قيمٌ سماويةٌ علويةٌ تصمدُ وتبقى، لا تنالُ العواصفُ والرياحُ منها عِوَجًا أبَدًا، لأنَّ أصلَهَا ثابتٌ وفرعَهَا في السماءِ، والأخرى رغباتٌ شخصانيةٌ أرضيةٌ، تزولُ وتفنى، وقدْ تصلُ للشهوانيةِ والحيوانيةِ .
قصةٌ ما أحوجَنَا إليها في زمنٍ غرتِ الكثيرَ الدنيا وزينتُها وبهجتُها! قصةٌ تغرسُ في نفوسِنَا رسالةً طالما تغافلنا عنها، وما زالتْ تؤكدُ تلكَ الرسالةُ حقيقةَ الدنيا ونعيمَهَا، وأنَّ علينا الحذرَ منَ الركونِ إليهَا، والاغترارِ بِهَا، قصةٌ تحثُّنَا على أنْ نجعلَ رضا اللهِ والتوكلَ عليهِ في كلِّ حالٍ نُصبَ أعيُنِنَا، ولتكنْ ثقتُنَا بما في يدِ اللهِ أوثقَ منهُ بما في أيدِينَا .
فكلُّ إنسانٍ من بني آدمَ إذا رأى نفسَه استغنى، فإنه يطغى، من الطُّغيانِ وهو مجاوزةُ الحدِّ ، إذا رأى أنه استغنى عن رحمةِ اللهِ، طغى ولم يُبالِ ، وإذا رأى أنه استغنى عن اللهِ عزَّ وجلَّ في كَشفِ الكُرباتِ وحصولِ المطلوباتِ، صارَ لا يلتفتُ إلى اللهِ، وإذا رأى أنه استغنى بالصَّحةِ، نسيَ المرضَ، وإذا رأى أنه استغنى بالشَّبعِ نسي الجوعَ، وإذا رأى أنه استغنى بالكُسوةِ، نسي العُرْيَ وهكذا.
فالإنسانُ من طبيعتِه الطُّغيانُ والتَّمردُ متى رأى نفسَه في غِنىً، ولكن هذا يَخرجُ منه المؤمنُ، لأن المؤمنَ لا يرى أنه استغنى عن اللهِ طرفةَ عينٍ، فهو دائمًا مفتقرٌ إلى اللهِ سبحانَه وتعالى، يَسألُ ربَّه كلَّ حاجةٍ، ويلجأُ إليه عندَ كلِّ مكروهٍ، ويرى أنه إن وكلَه اللهُ إلى نفسِه وكلَه إلى ضَعفٍ وعَجزٍ وعَورةٍ، وأنه لا يملكُ لنفسِه نفعًا ولا ضرًّا؛ هذا هو المؤمنُ ، والهدف والمقصود من القصص القرآني ، هو التفكر والاعتبار ، واستخلاص الدروس والعبر ، والاستفادة من نجاحات الآخرين أو اخفاقاتهم .
ومعنا قصةٌ ترسمُ نموذجينِ واضحينِ للنفسِ المغترةِ بزينةِ الحياةِ، والنفسِ المعتزةِ باللهِ. فصاحبُ الجنتينِ يُمَثِّلُ نموذجًا للرجلِ الثريِّ، أذهلتهُ الثروةُ، وأبطرتهُ النعمةُ، وحَسِبَ بلسانِ الحالِ والمقامِ أنها خالدةٌ باقيةٌ لا تفنى، فنَسِيَ مالكَ النعمةِ وواهبَ المنةِ الذي بيدهِ أقدارُ الناسِ والحياةِ ، وأما صاحبُهُ المؤمنُ فنموذجٌ للرجلِ المعتزِّ بإيمانِهِ، الذاكرِ لربِّهِ، الشاكرِ على نعمِهِ، يرى النعمةَ دليلاً على المنعمِ ، موجبةً لحمدِهِ وذكرِهِ وشكرِهِ، لا لجحودِهِ ونسيانِهِ وكفرِهِ .
وفي هذه القصة تعرض لنا الآيات مثالا لصنفين من البشر ، أحدهما كفر بالله ، وجحد نعمه ، وأنكر فضله ، والآخر مؤمن بالله شاكر لفضله ، ورضي بما أعطاه الله ، فقال الله تعالى :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) وتخبرنا آيات القصة عن وجود رجلين في الماضي، كان بينهما صلة وصحبة، أحدهما مؤمن، والآخر كافر، وقد أَبهمت الآيات اسمَيّ الرجُلَيْن، كما أبهمت تحديد زمانهما ومكانهما وقومهما .
وابتلى الله الرجُلَ المؤمن بضيق ذات اليد، وقلة الرزق والمال والمتاع، لكنه أنعم عليه بأعظم نعمة، وهي نعمة الإيمان واليقين والرضا بقدر الله وابتغاء ما عند الله، وأما صاحبه الكافر فقد ابتلاه الله بأن بَسَط له الرزق، ووسَّع عليه في الدنيا، وآتاه الكثير من المال والمتاع، ليبلوه هل يشكر أم يكفر؟ وهل يطغى أم يتواضع؟
فجعل الله لذلك الكافر جنَّتَيْن، والمراد بالجنّة هو البستان أو “المزرعة”، أي إنه كان يملك مزرعتين ، فقال تعالى (جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ) فكانتا مزرعتين من أعناب، وكانتا لهما أسوار بأسرابِ النخل من جميع الجهات .
وكان صاحبهما يزرع الزرع بين الأعناب، وقد فجَّرَ الله له نهرًا، فكان يجري بين الجنَّتَيْن (المزرعتين)، وكان صاحبهما يجني ثمارَهما، ثمار الأعناب، وثمار النخل، وثمار الزرع
وقال الله عز وجل ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) .
وهكذا أعجِبَ الرجلُ الكافر بجنَّتيه، وافتخرَ بمزرعتَيْه، واعتزَّ بهما، ودخلهما وهو ظالمٌ لنفسِه، كافرٌ بربِّه، متكبرٌ على الآخرين، وقال: إنهما مزرعتان دائمتان أبَدِيَّتان لن تبيدا أبدًا، وأنا أغنى الناس وأسعدهم بهما، وهما كل شيء، وليس هناك بعث ولا آخرة ولا جنة غير هاتين الجنتين ، ولو كنت صادقا في اعتقادك أن هناك موتا وبعثا وجنة في الدار الآخرة فسوف يكون لي أنا جنة أفضل من هذه ،لأنني أستحق ذلك ، وسوف يعطيني أفضل منك.
( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) فقد لاحظ صاحبه المؤمن الفقير الصابر غرورَه وبطرَه، فذكّره بالله، ودعاه إلى الإيمان بالله وشكره، والاعتماد عليه وليس على جنتيه وماله وغناه ، فقال له ناصحا .
( وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ) أي ذكرت الله ، وتوكلت عليه ، وفوضت الأمر له ، ونسبت الفضل إليه ، ثم قال له واعظا ومذكرا ( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ) .
أما أنا وإن كنت فقيرا ، قليل المال ، ولكني مؤمن بالله ورسوله ، وراض بما قسم الله لي ، وأشكره على كل النعم ، ولا أشرك معه أحد في فضله وعطائه ، ولكن الكافرَ المغرور أسكرته نشوة التملُّك، فلم توقظه هذه الكلمات ، ولم يستجب للنصيحة فرفض كلام وتحذير وتوجيه صاحبه المؤمن، وزاد اعتزازه بمزرعتيه واعتماده عليهما، وهنا كانت العقوبة من الله بأسرع مما يتصور ، وبجند من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) .
فقال تعالى واصفا ما حدث لجنته من تدمير وخراب ، وما انتابه من حزن وحسرة وألم:
( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) ولقد حدث ما حذَّره منه صاحبه المؤمن، فأرسل الله على مزرعتيه صاعقة، فأحرقتهما!! أحرقت العنب والنخل والزرع، وقضت على الشجر والزرع والثمر، ولم يبقَ مِن المزرعتين شيء، كل هذا جرى في ساعة من ساعات الليل .
وفي الصباح ذهب المغرور إلى جنتيه كعادته، فإذا بهما فانيتان بائدتان، فأسقط في يديه، وشعر بالندم وأيقن بالخسارة، التي أتت على كل ما يملك، وتمنى لو استجاب لنصح صاحبه المؤمن، ولكن متى؟ بعد فوات الأوان! وقال الله تعالى : ( هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ) نعم ، فمن كان الله وليه فقد أفلح وفاز في الدنيا والآخرة ، ومن وكله الله إلى نفسه ، خاب وخسر ، في الدنيا والآخرة .
فيجب علينا الاعتبار والاتعاظ بحال من أنعم الله عليه نعما دنيوية ، فألهته عن آخرته وأطغته وعصى الله فيها ، وينبغي للعبد إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده أن يضيف النعمة إلى مسديها ؛ ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء نعمته عليه ويقول ( مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ) وأن الله ينعم على عباده ليبتليهم ؛ هل يشكرون أم يكفرون ؟
والغالب أن الله يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ، ويوسِّعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة من نصيب ، ولنعلم حقارة هذه الدنيا من أولها إلى آخرها ، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من يحب ، وإن من أعظم وأهم أبواب الاعتبار هو تدبر القرآن الكريم ، وفي هذه القصةِ العظيمةِ، التحذيرُ من فتنةِ المالِ، والاعتبارُ بحالِ الذي أنعمَ اللهُ عليهِ نعماً دنيويةً، فألهتْهُ عن آخرتِه وأطغتْهُ، وعَصَى اللهَ فِيهَا، وأنَّ مآلَهَا الانقطاعُ والاضمحلالُ، وأَنَّهُ وإِن تَمَتَّعَ بِهَا قَلِيلاً فإنَّهُ يُحرَمُهَا طَوِيلاً .
التعليقات مغلقة.