القصعة بقلم / حسام شلقامي
اسمي عنتر الطيب، أعيش في قرية كبيرة، تتميز أرضها بالخصب والرخاء، قيراطها يأتي بغلة قيراطين وربما أكثر، ماشيتها ولود حلوب تكثر فيها التوائم، و تدر من اللبن أنهارا، من المفترض أن يعيش أهلها في نعيم مقيم وسعادة دائمة، لولا ذلك القابع بعصبته في الجبل، ينهب غلتها و يحلب قطعانها بشراهة لا تتوقف، نعم كنا مستسلمين تماما لإتاوة المعلم سيد الدباح ورجاله، وكانت أتعس أيام حياتنا هي أيام المواسم، لا أعني بالمواسم هنا الأعياد لكنني أعني مواسم حصاد الأرض ومواسم ولادة قطعان الماشية، تلك الأيام التي كان ينبغي أن تكون أسعد أيام حياتنا مع خير أرضنا الوفير، جعلها الدباح ورجالة أسود أيامنا.
مثلما كنا نتلهف على تلك الأيام رغم كآبتها، كان سيد وزبانيته مثلنا ينتظرون تلك الأيام على أحر من الجمر، يأخذون منا أجر حمايتنا كما يزعمون ونسمي نحن نهبهم أرزاقنا بالفردة، كان يسلبوننا أكثر من نصف خيرات أرضنا وماشيتنا، وكانت لهفتنا على تلك الأيام بسبب ذلك الرخاء الذي نعيشه فيها رغم السلب، والذي لولاه لعشنا العام كله في رخاء، ولكن رخاءنا يستحيل ضنكا وعوزا بعد وقت قصير من أيام تلك المواسم، كثيرا ما كانت أمي ترسلني لأم نعيم جارتنا أقترض منها قدحا من دقيق أو ورقة سكر أو تلقيمة شاي، كانت سعادتي لا توصف عندما أشم رائحة البيض المقلي، أعلم أن دجاجات جدتي صفية قد منت علينا بما تعجز أن تطاله يد الدباح في أيام ليست بمواسم، وحتى الدجاجات لم تكن كريمات على الدوام فما أكثر انقطاعها عن منحنا فلذات أكبادها من درها المكنون، بل وكثيرات منهن يأوين إلى أماكن خفية عن أعيننا تضعن فيها بيضهن وترقدن عليه، ما أكثر الأيام التي ننام فيها على الطوى ونصبر أنفسنا بمواسم أخرى آتية، وأحلام شبه مستحيلة أن يأتي أحدها ولا يكون للدباح وكلابه وجود فيها، أسمع حكايات جدتي عن أيام ما قبل ظهور تلك الطغمة والرخاء الذي كانت تعيشه قريتنا، كن يذهبن هي ورفيقاتها في فورة شبابهن إلى سوق البندر فيبعن ما يفيض عن حاجة الدور بعد امتلاء غرف الخزين بمؤونة عام وربما يزيد، يشترين بعائد بيعهن ما يحقق لهن ولرجالهن ولأبنائهن رفاهية قلما تحققت لإحدى قرى الجوار بل وقرى البر كله، كانت النساء تتزين بالملابس الحريرية المقصبة، والرجال يرتدون الجلابيب الصوفية والعباءات الجوخ، وينتعلن المراكيب الجلدية النمرة واحد، والأطفال يتيهون بجلابيبهم المطرزة بخيوط الحرير، حسرة عليكم يا ولدي ترتدون المرقع والمقطع وليتكم تجدونه، كانت جدتي صفية تختم حديثها معي بتلك العبارة الموجعة.
وتمر الأيام والسنون تترى والأرض لا تتوقف عن العطاء والماشية تعطينا خيرات بطونها والدباح ورجاله لا يتوقفون عن السلب والنهب، وكل عام يزيدون ما ينهبون مرة بحجة حمايتنا من عصابات أخرى جديدة ظهرت في قرى مجاورة ومرة بحجة حماية طرق روحنا وغدونا، ومرة بحجة منعهم وحوش الجبل الشرسة من النزول إلينا، وهكذا في كل مرة وكل موسم لا يعدمون حيلة يمتصون فيها مزيدا من دمائنا ونحن صابرون مستسلمون حالمون.
***
في قرية تجاورنا، تعيش ظروفا أتعس من قريتنا يتحكم فيهم وحش أخر اسمه ربيع الحنش، الذي اجتمع هو ورجاله يتشاورون في أسباب نقص غلتهم وقرب خواء مخازنهم من المؤونة رغم مضاعفتهم السلب من تلك القرية البائسة.
يقول عباس أبو شنب ذراع ربيع الأيمن:
…الأمر ليس صعبا، ننزل الليلة فنأخذ نصف ما في مخازن هؤلاء الرعاع، يكفيهم الباقي، هم معتادون على الجوع أما نحن فلا.
فينظر إليه ربيع مستفهما ويسأله:
…وهل يكفينا نصف ما في مخازنهم؟
فيجيبه عباس:
…هو لن يكفينا ولكننا لا نستطيع أخذ كل ما في مخازنهم والا ماتوا جوعا، وحرمنا خيرهم إلى الأبد.
يوجه ربيع حديثه للجميع متسائلا:
…ما هو سبب نقص مؤونتنا هذا العام بالذات…كنا لا نشعر بهذا النقص فيما مضى؟
فيجيبه عسران أحد رجاله الكهول:
…لقد زاد عدد رجالنا يا ريس فنقصت مخازننا وأوشكت مؤونتنا على النفاد.
…وما الحل من وجهة نظرك يا عسران؟
…هل تسمع يا معلم عن الدباح وعصابته؟
…طبعا اعرفهم
…هل تعرف ما يعيشون فيه من نعيم ورخاء رغم أنهم أكثر منا عددا؟
…نعم أعرف وأتعجب لذلك.
…لا تتعجب يا سيدي…عليك أن تعرف السبب أو المصدر ثم بعد ذلك لا تتعجب
…ما السبب أو المصدر…أخبرني يا عسران؟
…السبب أن القرية التي يتحكمون فيها أكبر وأكثر ثراء من تلك القرية التي تأوينا.
…ماذا تعني؟
…أعني أن علينا أن نزيد مصادر دخلنا…أعني أن نسلب تلك القرية من الدباح ورجاله.
…وهل سيتركنا الدباح ورجاله نفعل ذلك؟
…لن تكون المعركة سهلة ولكنها ليست مستحيلة…سنسبقهم بضربة أولى قاسية، ثم بعد ذلك يكون لكل حادث حديث.
…ترى كيف تكون ضربتنا الاولى يا عسران
…ساخبرك يا معلم سأخبرك.
إلى اللقاء في الجزء الثاني والأخير
التعليقات مغلقة.