القطة قصة قصيرة بقلم خالد العجماوي
هذه المرة كانت حروفها واضحة. نظرت نحوي وهي رابضة على الشباك المفتوح على الحديقة الأمامية، ونطقت بصوت مسموع “جائعة”.. ربما كانت مجرد خيالات في المرات السابقة أما هذه فلا. الصوت واضح والحروف منطوقة بشكل سليم. عفريت؟! ربما! أسمع أن الجن يأتي في صورة القطط. ولكنها ليست سوداء، كما أن ذيلها ليس مفقودا كما كانت تقول جدتي عن شكل العفاريت حين تأخذ شكل قطة.
- ربما هي هاربة من بلاد العجائب!
قالها في هدوء، وفي يده غليونه الوثير، وقد علا الدخان شاربه الكث. إنه صديقي السير آدمز، يزورني كل مدة، حيث يمد عينيه الزرقاوين سارحا في أمد الفراغ الممتد أمام شباك الغرفة. سألته متهكما وقد عصبني بروده: - وهل تؤمن بوجود تلك البلاد يا آدمز! كانت مجرد قصة اختلقها كارل لويس للمراهقين..
- يقولون لا دخان دون نار، وأنا أقول لا خيال دون واقع يستند عليه.
- هذا جنون!
لمحت شبح ابتسامة نبتت وراء غابات شاربه، وهو يردف: - هكذا كانت تبدو حقائق اليوم منذ سنين مضت..مجرد أطياف للوهم، ثم صارت حقيقة لا تنكرها العيون.
كاد بروده أن يهيج عندي رغبة في السباب..
كانت أنيتا هي الأخرى جالسة على طرف سريري- هي أيضا صديقتي- تتشح بوشاحها الأخضر الذي تركته ينسدل ليغطي ما استطاع من جسدها الأسمر ، وذلك القرط المدور يزين أنفها الكبير، وعلى جبهتها نقطة حمراء تشبه قرص الشمس وقت المغيب. - ربما هي جدتك تزورك..
- هل تسخرين مني؟ جدتي الميتة تأتي لتزورني على شكل قطة؟!
أغمضت عينيها وقالت وقد ضمت كفيها في إيمان: - أرواحنا لا تذهب بعيدا..بل هي تولد من جديد ولكن في أجساد مغايرة.
نفخت في قوة، وقد كاد صبري ينفد: - الإيمان والجنون عندك وجهان لعملة واحدة يا أنيتا.
لم تبد اهتماما..حتى أنها لم تلحظ وجود دكتور محي صديقي القديم من أيام الدراسة..أهلا محي..أين كنت.. طالت الغيبة! لاتزال أنفك الهزيل تحمل هذه النظارات الثقيلة!
كأنه لم يسمعني. ظل يرمق القطة على طرف الشباك، وقال وهو يجلس على كرسي مجاور: - هي طفرة وجدت طريقها في هذه القطة.طفرة تعني أن القطط سوف تتكلم في المستقبل القريب.
نظرت إليه مشدوها. قال: - دورنا هو أن نحافظ عليها، وأن نقوم برعايتها كي تنقل هذه الصفة الوراثية لسلالة جديدة من القطط..
- بل إنها جن كافر ولابد من الخلاص منه.
شق الصوت فراغ غرفتي، فوجدناه يأتي من أمام الباب..كان الشيخ عرفان..بدا غاضبا من كلام دكتور محي .. - ومن أنت كي تفهم في علوم الأحياء؟
سأله محي مستنكرا.. - أعرف في أنواع السحر و أعمال الشياطين..
قال دكتور محي ثائرا: - إن تخلصت من القطة وقفت في طريق العلم..
- بل أكون قد حاربت شيطانا مريدا جاء على شكل قطة..
قالها الشيخ عرفان في عناد وثبات..
أكلتني الحيرة..
توجهت بناظري نحو السير أدامز..وجدته يدخن غليونه وهو يرمق الفراغ عبر شباك الغرفة.. ويقول في هدوء: - قطة هاربة من بلاد العجائب..
استدرت نحو طرف سريري..بدت أنيتا كأنها تصلي وهي تضم كفيها وقد انحنت برأسها نحو الأرض وعيناها مغمضتان، وتهمس: - بوركت روح الجدات..
نظرت نحو الدكتور محي والشيخ عرفان وكانا يتبادلان نظرات غضب وتحد. رمقت القطة من جديد..كانت لاتزال رابضة على سور شباكي وهي تنظر إلي.
دلف زغلول الممرض أخيرا..نظر إلى ساعته، وقال وهو يمسكني من معصمي: - ميعاد الجلسة..
تركتُ له معصمي مستسلما. لم يكترث له أحد، كما أنه لم ينظر إلى أحد..حتى أنه لم يلحظ القطة وهي تتأملني خارجا من الباب، وقد هشت ذبابة بطرف أذنها وهي تهمس لي: “جائعة”..
التعليقات مغلقة.